إذا كان الكونجرس الامريكي قد استقبل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بحرارة وحفاوة لا يمكن ان يحظي بهما في مبني الكنيست الاسرائيلي نفسه، فان الحال لم يكن كذلك في البيت الأبيض الامريكي. لم يتم التقاط صور لاجتماع الرئيس الامريكي باراك أوباما ونتنياهو، ولم يصدر البيت الابيض بيانا حول الاجتماع، كما جرت العادة في هذه المناسبات.. وامتنع مسئولون في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الامريكية عن التعليق علي ما جري في الاجتماع. وتقرر عدم عقد مؤتمر صحفي عقب الاجتماع.. وقال المحلل الاسرائيلي »الوف بن« في صحيفة »هآرتس« الاسرائيلية، نتنياهو غادر امريكا في حالة من الخزي والعزلة.. واصبح اضعف مما كان عليه عند وصوله الي واشنطن. واضاف انه بدلا من استقبال نتنياهو في البيت الأبيض كضيف شرف عومل كطفل شقي أو جندي عادي يتلقي الأوامر بالركض حول المعسكر عقابا له علي وقوعه في الخطأ.. وعرف العالم، بعد ذلك، ان اوباما ابلغ نتنياهو بان الأجوبة التي سبق ان قدمها علي الاسئلة الامريكية ليست مرضية، وانه قدم له ثلاثة عشر مطلبا امريكيا ينتظر الاجابة عليها الآن. ورغم ان محتوي المطالب الامريكية لم يكشف النقاب عنه، الا ان ما تسرب منها، حتي الآن، يشير الي طلب امريكي بعودة القوات الاسرائيلية الي مواقعها السابقة علي الانتفاضة الثانية والي وقف الاستيطان في القدسالشرقية، وتمديد فترة وقف الاستيطان المعلنة في الضفة الغربية، واطلاق سراح عدد من الأسري الفلسطينيين تعبيرا عن حسن النية تجاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وطرح قضايا الحل النهائي.
المهم انه يمكن القول بان هناك مشكلة بين اوباما ونتنياهو جعلت المعلقين الاسرائيليين يصرون علي القول بان اوباما تعمد إهانة رئيس الوزراء الاسرائيلي، مما هو السبب في ظهور هذه المشكلة رغم قوة النفوذ الصهيوني في الكونجرس الامريكي، وقوة تأثير مراكز الضغط اليهودية داخل الولاياتالمتحدة. لعل القاريء يتذكر ان الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الابن كان قد شكل مجموعة ابحاث حول العراق تضم عدة شخصيات امريكية مهمة علي رأسها جيمس بيكر وزير الخارجية الامريكي الاسبق. وتوصلت هذه المجموعة الي نتيجة مفادها ان الولاياتالمتحدة لن تكون قادرة علي تحقيق أهدافها في الشرق الأوسط.. ما لم يتم ايجاد تسوية للقضية الفلسطينية. وفي عام 6002، أثار اثنان من كبار المفكرين وخبراء السياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة - هما »جون ميرشيمر« و»ستيفن والت« - عاصفة هائلة وضجة كبري، لأنهما أعلنا في كتابهما »اللوبي الاسرائيلي والسياسة الخارجية الامريكية« ان الاهداف التي تسعي وراءها كل من الولاياتالمتحدة واسرائيل أبعد ما تكون عن التطابق، بل ان هذه الأهداف متعارضة في أغلب الأحيان. وأوضخ هذان المفكران ان الاشخاص الذين يتحركون دفاعا عن مصالح اسرائيل داخل الولاياتالمتحدة انما يستخدمون مراكز الضغط ويسخرونها بشكل عدواني لتوجيه السياسة الخارجية الامريكية علي النحو الذي يجعلها في خدمة اسرائيل. وكل من يتابع دقائق السياسة الامريكية يلاحظ ان هذه الوقائع التي طرحها كتاب »ميرشيمر« وستيفن والت«، عادت الي الظهور بقوة في الولاياتالمتحدة في الاسبوع الماضي. فقد ترددت نفس هذه الأفكار علي ألسنة شخصيات كبيرة لها وزنها. ومحور هذه الافكار:. ان سلوك اسرائيل يقوض المصالح الامريكية.. هذا ما قاله الجنرال ديفيد بتريوس، القائد العام للقيادة الوسطي للولايات المتحدة التي تتولي ادارة حربين تخوضهما امريكا في الوقت الحاضر. انه اكثر القادة العسكريين الامريكيين شهرة من ابناء جيله، والأهم من ذلك انه الشخصية التي تتمتع بتأييد وتقدير اكثر اتباع اسرائيل شراسة في الولاياتالمتحدة، وهم المحافظون الجدد. وفي يوم الاربعاء الماضي ابلغ الجنرال بتريوس اعضاء اللجنة العسكرية بمجلس الشيوخ الامريكي بما يلي: »المواجهات المستمرة بين اسرائيل وبعض جيرانها تشكل تحديات واضحة ومؤكدة لقدرتنا علي الدفاع عن مصالحنا في المنطقة التي تتولي مسئوليتها«. وأضاف قائلا: ان هذا الصراع يخلق مشاعر معادية لامريكا، نتيجة للاقناع بان الولاياتالمتحدة منحازة لاسرائيل. كما ان الغضب العربي الناشيء عن القضية يحد من قوة وعمق الشراكة الامريكية مع حكومات وشعوب المنطقة التي تتولي مسئوليتها ويضعف شرعية انظمة الحكم المعتدلة في العالم العربي«.. وقال بتريوس: »انه في نفس الوقت تقوم تنظيمات مثل »القاعدة«، وغيرها من الجماعات المتطرفة باستغلال هذا الغضب العربي لحشد التأييد لمواقفها، علاوة علي ان استمرار هذا الصراع يعزز نفوذ ايران في العالم العربي عبر انصارها: حزب الله اللبناني وحركة حماس«. ومما يسترعي الانتباه ان الجنرال بتريوس يؤكد ان احراز تقدم نحو تسوية المنازعات السياسية في المشرق العربي، وخاصة النزاع العربي - الاسرائيلي هو الشاغل الرئيسي للقيادة العسكرية الامريكية الوسطي. ويربط بتريوس بين انشطة المتطرفين في المنطقة وبين غياب السلام والانحياز الامريكي لاسرائيل. ويقول »توني كارون« كبير محرري مجلة »تايم« الامريكية وخبير شئون الشرق الأوسط والقضايا الدولية، ان التوقيت الذي اختاره الجنرال بتريوس للاعراب عن قلقه وهواجسه جاء في ذروة الخلاف العلني بين الولاياتالمتحدة واسرائيل. ويضيف »كارون ان الادلاء بهذه الآراء والتقديرات للموقف في مجلس الشيوخ الامريكي يكشف مدي حرص القيادة العسكرية علي طرح هذه المسألة وابراز خطورتها. ويتوقف »مارك بيري« محلل الشئون العسكرية والاستخبارية المخضرم في واشنطن عند اقوال الجنرال بتريوس باعتبارها بالغة الأهمية، ويعلق علي ذلك في الموقع الالكتروني لمجلة »فورين بوليسي« الامريكية قائلا: هناك مراكز ضغط قوية، ولها ثقلها في امريكا، مثل اللوبي الاسرائيلي.. وغيره، ولكن لا يوجد لوبي اكثر اهمية واكثر قدرة من المؤسسة العسكرية الامريكية«.
وثمة تطور يلفت النظر في الافكار المطروحة في واشنطن ففي اجتماع مع رئيس اركان حرب الجيوش الامريكية المشتركة الادميرال مايكل مولن، اقترح الجنرال بتريوس ان تكون الأراضي الفلسطينية، التي تحتلها اسرائيل، جزءا من المنطقة التي تتولي القيادة الامريكية الوسطي مسئوليتها، وهو احتمال يمكن ان يصيب القادة الاسرائيليين بالرعب.. ويقول مسئولون اسرائيليون ان التقرير الذي رفعه قائد القوات الامريكية في الشرق الأوسط الي الرئيس اوباما يطالب بوضع قطاع غزة والضفة الغربية تحت حماية الجيش الامريكي، وان اسرائيل تحولت من رصيد وكنز للولايات المتحدة.. الي عبء يثقل كاهلها. ويعتبر المسئولون الاسرائيليون ان ذلك يعني خطوة عملية لفرض الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة. اذا اضفنا الي ذلك ان الجنرال كيث دايتون - الضابط الامريكي المسئول عن تشكيل وتدريب قوات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية اعلن ان هذه القوات يمكن ان تتمرد اذا لم يتم احراز تقدم نحو اقامة الدولة الفلسطينية »لأنها تعتبر نفسها من أدوات الدولة الموعودة«. وإنما يزداد الموقف وضوحا، ويتلخص في بروز احتياج عسكري امريكي لكبح جماح التوسع الاسرائيلي وفرض حل سياسي للنزاع. وكان هذا هو نفس موقف عسكريين امريكيين كبار آخرين من امثال الجنرال »كولن باول« »وزير الخارجية الاسبق« والجنرال »انتوني زيني« المبعوث الامريكي السابق للشرق الأوسط.. وهذا هو ما يلقي الضوء علي موقف اوباما الأخير من نتنياهو اذن، فان الفكرة التي تطفو الآن علي السطح في الدوائر الرسمية الامريكية هي ان سلوك نتنياهو يلحق الضرر بمصالح امريكا القومية وأمنها القومي وان الفشل في تسوية الصراع بدأ يعرض حياة الجنود الامريكيين في العراق وافغانستان للخطر. هذا هو تفسير ظهور مشكلة بين اوباما ونتنياهو. فهل يتصرف العرب في هذه الظروف المواتية علي نحو يشد أزر الرئيس الامريكي ويعزز صموده في وجه اسرائيل؟