في السياسات العامة للدولة هناك العديد من الأرقام التي يجب أن نتوقف عندها كثيرا لأنها تجافي العقل والمنطق وتحتاج إلي مراجعة شاملة. فعلي حين تم تخفيض ميزانية وزارة الزراعة من 2 مليار جنيه إلي نحو مائتي مليون جنيه فقط وهي الوزارة المسئولة عن إنتاج الغذاء في مصر والذي يعد حجر الأساس في الاستقرار المجتمعي والتنمية، نجد في المقابل أن ميزانية دعم الصادرات بلغت 4 مليارات جنيه مصري أي أكثر من عشرين ضعفا عن موازنة وزارة الزراعة!! وكثيرا ما يتجاوز بند دعم الصادرات الخمسة مليارات بتدعيم لهذا البند، كما أن ما صرف لمصدري الموالح هذا العام يفوق كثيرا ثمن الموالح المصدرة نفسها!! علي الرغم من تاريخ مصر الناصع في تصدير الموالح طوال الخمسين عاما الماضية وبالتالي فإن ما فعله المصدرون هذا العام هو فقط استغلال لأساس وضعه رواد تصدير المنتجات الزراعية في السابق والذين يعود إليهم الفضل في فتح الأسواق التي تستغل حاليا ولكن بعائد يفوق مثيله عند الرواد الأوائل. وكثيرا ما أتساءل هل إلغاء بند دعم الصادرات من الموازنة العامة للدولة يمكن أن يؤدي إلي إغلاق الأبواب في وجه الصادرات المصرية والتي ظلت مفتوحة علي مدي عشرات السنين خاصة لصادراتنا من الموالح والبصل والثوم والطماطم والفاصوليا والكنتالوب والفراولة والقرعيات!!! (أصبحنا الآن نستورد الثوم الصيني بسعر يصل إلي 30 جنيها للكجم!!) وهل دعم الصادرات هذا يعود بفائدة كبيرة علي حجم الصادرات بحيث تتجاوز 60 مليار جنيه مصري وهو الرقم المنطقي الذي يجب أن يؤخذ كعائد لهذا الدعم ينبغي أن يعود علي الدولة بعشرة أضعاف المبالغ المخصصة له!؟ وهو ما لم يحدث ولن يحدث لا الآن ولا مستقبلا!!. الأمر الثاني أن الدعم يذهب كله للتاجر فقط والذي يأخذ المحصول من الزارع المنتج والمنطقي في هذا الأمر أن يوزع هذا الدعم بين المنتج والتاجر لا أن يستأثر به التاجر فقط فبدون المزارع لا توجد سلعة زراعية يمكن أن يصدرها هذا التاجر ولا أن يتاجر بها والمستقبل القريب جدا أوضح لنا أن ما دفُع من مبالغ في دعم استلام القمح من المزارعين هذا العام - رغم المبالغة الكبيرة في قيمته - قد عاد علي الدولة بعد أقل من شهرين فقط بأضعافه نتيجة لتضاعف أسعار القمح في البورصات العالمية وارتفاعه من 170 دولارا للطن إلي 300 دولار للطن ولو كان القمح المحلي قد ورد كاملا إلي الدولة وليس إلي التجار والمستغلين لطوابير التوريد لتضاعفت قيمة استفادة الدولة من زراعتنا للقمح. ولكي يكون الأمر أكثر عدالة فلابد أن يتم إثبات مصدر الحاصلات المصدرة لتوزيع قيمة دعم الصادرات بالتساوي بين المزارعين المنتجين وبين التاجر المصدر إن كان لهذا البند من الدعم - والذي يفوق قيمة دعم السلع التموينية التي توزع علي 62 مليون مصري والذي يتم بحث كيفية ترشيده أو إلغائه بين حين وآخر - أن يستمر مستقبلا. وارتباطا بهذا الأمر فإن المبالغ المخصصة في الموازنة العامة والخاصة بالبحث العلمي ومراكز البحوث الزراعية يجب أن تتضاعف عدة مرات لحاجتنا الماسة إلي استنباط العديد من الأصناف الجديدة عالية الإنتاجية والمتحملة للعطش والحرارة والملوحة والمقاومة للإصابات المرضية والحشرية خاصة لأصناف القمح والفول والعدس والذرة والمحاصيل السكرية ومحاصيل الزيوت وجميعها وعلي مدي السنوات العشر الأخيرة لم يتم استنباط صنف واحد جديد منها بل أن النشاط الذي كان يتمتع به القطاع البحثي لمحصول القمح بدأ في الأفول وبدا تدهور إنتاجية الأصناف الحالية واقعا لا يمكن إنكاره خاصة أن بعضها قد مضي علي بدء إنتاجه أكثر من عشرين عاما فلا يعقل ألا تتجاوز الميزانية المخصصة للبحث العلمي في مختلف المجالات أكثر من 0.3٪ فقط من حجم العائد من المجال الزراعي والتي ينبغي لها أن تصل إلي 5٪.