هل يذكر أحدنا آخر مرة التقي فيها بالروائي والقاص الكبير مجيد طوبيا؟ هل يعرف أدباء جيل الستينيات الذي ينتمي إليه مجيد ما إذا كان علي قيد الحياة أم فارقها؟ وماذا يفعل ناشروه بكتبه ومن الذي يحصل علي مستحقاته عن النسخ التي تباع منها؟ وهل يهتم أحد بإصدار طبعات جديدة من رواياته الشهيرة التي ترجمت بعضها إلي لغات أجنبية، أو كانت محوراً لرسائل جامعية هنا في مصر أو في الكثير من الجامعات الأوروبية: "دوائر عدم الإمكان"، و"الهؤلاء"، و"غرفة المصادفة الأرضية"، و"الوليف"، و"حنان"، و"ريم تصبغ شعرها"، و"عذراء الغروب"، و"الحادثة التي جرت"، وثلاثية "تغريبة بني حتحوت"، أو مجموعاته القصصية: "فوستوك يصل إلي القمر"، و"خمس جرائد لم تقرأ"، و"الأيام التالية"؟. وأين ذهب الأصدقاء الذين كانوا يلتقون معه يومياً علي مقاهي مصر الجديدة وكازينوهاتها التي اختفي بعضها من الوجود أو استحال إلي كيانات إنفتاحية جديدة؟! ظلت هذه الأسئلة تؤرقني طويلاً، إلي أن اهتديت إلي صديق مشترك يقيم في الإسكندرية: الناقد الدكتور عبدالله سرور، فأكد لي أن "مجيد" لا يزال علي قيد الحياة وأنه يحضر من الإسكندرية خصيصاً ليطمئن عليه. فرجوته أن يستأذنه في أن أتوجه لزيارته، ولم يعترض، وذهبنا إليه في الأسبوع الماضي.. تركنا السيارة بالقرب من باب الكلية الحربية وكان الشارع الذي يقيم فيه أمام ناظرينا، وبعد أن قطعنا أقل من مائة متر وصلنا إلي البيت الموجود علي الجانب الأيمن من الشارع، الذي تحتل شقته واجهة الطابق الأرضي منه، ونادي عليه صديقنا فرد علي الفور، وفتح الباب الحديدي وهلَّ علينا وقد طال شعره ولحيته وغزاهما الشيب وانحني ظهره وضعف بدنه وتردت صحته ونفسه، ولفتني إرتعاش يديه واضطراب لسانه، وإن لم يمنع كل هذا من ترحيبه بنا بشكل طفولي يشوبه الإنكسار وإغروراق عينيه بالدموع أحياناً، أغلقنا نحن باب الشقة وعبرنا الردهة التي واجهتنا فيها لوحة بريشته ودخلنا إلي غرفته الأثيرة وجلس هو علي مقعد تعلوه براءة حصوله علي جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1979، وقد جعل من منضدة خشبية صغيرة مكتباً تتناثر عليه مخطوطات كتابات سبق نشر معظمها، وفي مواجهته جهاز تليفزيون عتيق صامت دائماً، وقد أشار إلي أنه لا يفتحه وكذا جهاز الكمبيوتر البدائي المجاور له لا يتمكن مجيد من التعامل معه بمفرده، وقد كان "شيش البلكونة" المطلة علي الشارع موارباً وربما وافق علي أن يشرعه قليلاً بسبب زيارتنا له. لم يُخف علينا أنه لم يذق الطعام منذ أيام، ومع ذلك أصر علي أن يحتسي ثلاثة أكواب من القهوة دون أن يكمل سندوتش طعمية واحد!. سألناه عن معاش اتحاد الكتاب الخاص به، وذكر أنه من أعضائه المؤسسين، وحدد أن رقمه 33 بين الأعضاء الذين زادوا الآن علي ألفي عضو، وعندما طلبت منه رقم تليفونه وانتهي من إملائه عليّ ، علق الدكتور عبدالله سرور بهدوء قائلاً: "لا يا مجيد.. ده مش رقم تليفونك"، واملي عليّ رقماً مختلفاً تماماً، طلبته من تليفوني المحمول، فإذا بجرس تليفونه القديم الملاصق ليده اليسري يرن، وعندئذ أدركت أن "مجيد" لم تعد به حاجة لمعرفة رقم هاتف بيته!. وعندما سألته عن أصدقائه رد في تلقائية: لا أعرف أخباراً عن أحد، فقط سمعت - لا أدري ممن - أن عبدالرحمن أبو عوف مات، وقبله الدكتور أحمد كمال زكي الذي كنت أتردد معه علي المقهي، وذكر في ثنايا كلامه أنه لم يعد يمتلك القدرة علي الخروج من باب شقته بمفرده، وعندما تجرأ وفعل سقط في الطريق وحمله أحد المارة وأعاده إلي بيته، فلم يكررها. هذا يا سادة ما وصل إليه حال فارس من أهم فرسان جيل الستينيات.. ألا يستأهل مجيد طوبيا أن يتوجه الدكتور شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة، ومحمد سلماوي، رئيس اتحاد الكتاب، لزيارته والوقوف علي حالته، وإدخال بعض الطمأنينة إلي نفسه المنكسرة، قبل أن يقررا ماذا سيفعلان لإنقاذه؟