عزت القمحاوى لسبب لا أعرفه تركزت صداقاتي في جيل الستينيات من الكتاب، ليس المصريون وحدهم بل العرب كذلك. لم يكن أبناء جيلي يرونني، وبالمقابل لم أكن أراهم. لعله محض قدر مكتوب، لعلها المصادفة العمياء، ولعل الكسل منعني من الفرار من صحبة الأكبر سنًا، ولم أتحسب للألم الذي سيوقعني فيه هذا الالتحاق المؤلم بجيل سيغادر ويتركني بحكم الطبيعة لا اللؤم إن لم يقتلني مرض أو سيارة أو ثورة. وقد أعفاني من الحزن الرحماء الذين خذلوني أو خانوا ثورة 25 يناير (الغربال الذي صرت أري منه الناس) وأما القساة، من أمثال يوسف أبو رية وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي، فلم يفعلوا ما يجعل عبورهم هينًا. يوسف أبو رية القنطرة العزيزة بين جيل الستينيات وبين جيلي استأذن مبكرًا قبل الثورة بعامين، ثم مضي أصلان إلي نومته الأخيرة قبل أن تكمل الثورة عامها الأول بأيام. وفي التوقيت ذاته بدأ السرطان اللعين حياكة مؤامرته الخسيسة ضد كبد البساطي، مثلما حاك الفاسدون المؤامرة تجاه كتابته بدأب واقتدار شديدين. كان البساطي ضد فساد وزير الثقافة المزمن الذي بيده جوائزها وكان ضد فساد النقاد الذين بأيديهم جوائز العرب؛ فلم ينل برتقال مصر أو بلح الخليج، باستثناء جائزة العويس مناصفة مع زكريا تامر، هو الذي نال جائزة تسلمها من عبدالناصر علي أول قصة كتبها. ولأن الأحوال لم تتغير بعد، لم ينل البساطي بعد ما يستحقه من تكريم، حتي أن أحوال مرضه ومحاولات علاجه يتدبرها الآن بكل ترفع وسرية، لم يمد يدًا، ولم تمتد إليه يد الدولة. لماذا أقول: كان البساطي؟ هو لم يزل في مكانه لم يتزعزع في ظل عنفوان دولة الفساد، لم يمتثل ويعود صاغرًا إلي حظيرة فاروق حسني، ولم تزل الدولة في مكانها أيضًا فلم ينل الجوائز التي فقدت هيبتها بوضعها تحت أقدام الصغار. وأما كتابة البساطي فلم تزل حية بقوتها الذاتية، بحساسيتها، بكثافة لغتها غير المدركة، وغير المدروسة حتي الآن. وقد جربنا كثيرًا سقوط الكتابة في اللحظة الأولي التي تتعري فيها من الحضور الفيزيائي لأصحابها. ولكن كتابة البساطي لن تعاني من ذلك، فقد تم اختبارها علي مدار خمسين عامًا لم تكن محروسة بقوة السلاح أو بتنقل صاحبها من مؤتمر إلي ندوة إلي حفل عشاء. عاشت هذه الكتابة الناعمة عزيزة من دون صاحبها المعتزل، الغائب كالميت، أو الذي كان الفاسدون والمقايضون يعتبرونه ميتًا؛ فلا يضعونه في الحسبة عندما يقتسمون المنافع. الحق أقول إن البساطي، الذي أرجوه الآن أن يتمهل ويبقي معنا، هو الوحيد الذي حذرني من المصير المؤلم لمن يتعين عليهم رثاء أحبابهم. كان دائمًا ما يذكرني بأنني (عيّل) يفعل ذلك إذا ما خذله المنطق ورأي الحق معي في مناقشة أدبية أو منافسة عاطفية أو حتي في تحديد موعد ومكان اللقاء. وكنت أقول له إنني من صميم جيلهم؛ فما الفرق بين أن تبدأ الكتابة في عقد الستينيات أو تبدأ الحياة فيه؟! من فرط ثقتي بالضحك وفضائله، كنت أعتقد أن البساطي الضحوك لن يمرض أبدًا. بالضحك يبدأ المكالمة الهاتفية، بالضحك ينهي النقاش، يستخدمه مضادًا للإحساس بالخجل عندما يسترسل أحدهم في مديح روايته الجديدة: لعلمك أنا كتبتها بصباع رجلي. يضحك البساطي دائمًا ليهرب من اللحظات العاطفية. لم يخف من شيء قدر خوفه من الحنان. نعرف عنه هذا ونتسامح معه في هروبه من مجالس العزاء. وأرجو أن يتسامح مع عاطفيتي الآن وألا يردها بسخرية وتنكيل مثلما رد مجاملتي الخرقاء منذ أكثر من عشرين عامًا. كنت قد ضحيت بصحبة فتاة جميلة وفاء لموعدي علي المقهي مع البساطي وطلعت الشايب ويوسف أبور رية، الأمر الذي لم أفعله بعد ذلك أبدًا، لأن سخرية البساطي أنضجتني. يحكي طلعت عن أحدث إصدار انجليزي، يحكي يوسف عن رواية فاتنة قرأها مصادفة، ويعود البساطي ليجلدني بالسؤال: قلت لها إيه يا خويا؟ هي هيء، هتقابل اصحابك؟! ظل يتذكر هذا سنوات طوال، حتي قلت ليته ينسي. ولم أعد إلي تقديم الصداقة علي الغرام، لكنني تدبرت أمري للجمع بين الحب وبين البساطي وقلة تبقت من أصدقائي القساة. منذ أسبوعين ألححت عليه لننزل إلي وسط البلد. مررت عليه بسيارتي ولحظه الحسن وجدنا شارعًا مضت فيه السيارة. كان كعادته واقفًا قبل الموعد علي الباب، ضعيفًا وشامخًا. في مقهي الجريون طلب كل المزات التي نطلبها عادة ولن نأكلها الليلة، طلب عصيرًا لم نكن نشربه، وجاء رياض أبو عواد مع صديق صباه شفيق سلوم. تبادلنا رياض وأنا لعبة مغادرة المائدة أو الإشاحة بالنظرة بعيدًا لإخفاء قطرات العاطفة التي لا يحبها البساطي. وكنا بين اختناقة أسي وأخري نعود إلي الضحك الذي يحبه والحديث الذي كنا نتحدثه دائمًا. وبعدها لم أتلق ردًا من البساطي علي محاولاتي الهاتفية. وسافرت إلي قطر لأختبيء من درب الأعمار، وأنا أكثر إيمانًا بفضائل الكتابة؛ فالمؤكد أن البساطي كتب الكثير الذي لن يموت.