لا اعرف هل هي الطيبة أو السذاجة أو النوايا الحسنة والآمال التي لا تتحقق ؟!... أتحدث عن تلك الدعوات التي انطلقت تطلب وتتمني أن تري في بر مصر مثل المبادرة التي أطلقها في أمريكا أثنان من اغني أغنياء العالم (الملياردير بيل جيتس صاحب شركة ميكروسوفت، وزميله الأغني بافيت) لزملائهم من المليارديرات الأمريكان لكي يتنازل كل منهم عن نصف ثروته (الآن أو بعد وفاته) من أجل الأعمال الخيرية، وهي المبادرة التي انضم إليها العشرات من اغني أغنياء أمريكا، لكي يصل حجم المتوقع من تبرعاتهم حتي الآن حوالي 600 مليار دولار.. والبقية تأتي. البعض تصور أننا الأولي بمثل هذه المبادرات في مصر وفي العالمين العربي والإسلامي، حيث يفترض أن تسود قيم التراحم والتكافل و.."ليس منا من بات شبعانا وجاره جائع".. ولكن ما أبعد الواقع عن هذا التصور، وما أبعد المسافات بين الآمال والأمنيات من ناحية، وما نراه ونلمسه في زمن اختلت فيه الكثير من المعايير، ولم يعد الكثيرون يدركون أننا لن نكون خير أمة أخرجت للناس، إلا حين نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر. بالطبع لدينا من الأثرياء من يفعل الخير، بل ولدينا من متوسطي الحال من يجود بالقليل الذي يستطيع الاستغناء عنه، ولكن الطيبة او السذاجة فقط هي التي تجعل البعض يتصور أن تجربة مليارديرات أمريكا يمكن تطبيقها في مصر.. فكيف يتنازل عن نصف ثروته من لا نعرف من الأساس مقدار ثرواته، لأنه يرفض الإفصاح عنها، ويرفض الكشف عن مصادرها في غياب قوانين تلزمه بذلك، خاصة حين يدخل ميدان العمل العام؟ وكيف يتنازل عن نصف ثروته من يلجأ لكل الوسائل لكي لا يؤدي ما عليه من ضرائب.. والأمر هناك لا يتعلق بالمليارديرات فقط، ولكن بثقافة المجتمع التي تجعل التهرب من الضرائب شطارة، وبقوانين الدولة التي لا تجعل من هذا التهرب جريمة كبري في حق المجتمع تستحق أقسي العقاب، وهكذا ستجد فنانين كبار - يقبضون الملايين ويكتبون العقود ببضعة آلاف، وستجد مهنيين يربحون الكثير ويرفضون إعطاءك الفواتير عما يقبضونه، وستجد لاعبي كرة يتسلمون الجزء الأكبر مما يكسبونه تحت الترابيزة.. ولا أحد من هؤلاء يشعر بأنه يرتكب جريمة في حق المجتمع! ثم.. كيف يمكن أن نتصور ان يتبرع بنصف ثروته لأعمال الخير، من جاء بمعظم ثروته من الاستيلاء علي أراضي الدولة وتسقيعها، أو من استغل موقعه البرلماني أو الوزاري في إبرام صفقات يعلم أنها ضد الدستور الذي يمنع اتجار الوزراء ونواب البرلمان مع الدولة ؟ وكيف يمكن أن يتبرع بنصف ثروته لأعمال الخير من يستحل أن تجئ ثروته من استيراد لحوم فاسدة أو قمح لا يصلح للاستهلاك الآدمي إلا بشهادات مضروبة من فاسدين بأجهزة الرقابة؟! آخر ما عند هؤلاء أن يقيموا مائدة للرحمن في شهر رمضان، أو أن يقدموا شيئاً من المساعدة لبعض الحالات الإنسانية، أو أن يساهموا في رعاية برنامج تليفزيوني يرعاهم بدوره عند الحاجة (!!) وكلها أنشطة تساعد في تحسين الصورة، والأهم انها علي حساب "صاحب المحل" لان نفقاتها تخصم من الضرائب!! ومرة آخري.. لا يعني هذا أنه لا يوجد لدينا أثرياء يراعون الله ومصالح الوطن والمجتمع حين يعملون، وحين يربحون، وحين ينفقون مما كسبوا، ولا يعني هذا أيضاً أن الكثير من موائد الرحمن تقام لوجه الله.. ولكنه يعني أن الرهان علي حل يأتي علي الطريقة الأمريكية بتبرع المليارديرات بنصف ثرواتهم هو مجرد وهم، وأن تصور أن سياسة موائد الرحمن يمكن أن تكون حلاً لأوضاع ازدادت فيها الهوة بين الأغنياء والفقراء، واختلت موازين توزيع الدخل القومي، وازداد فيها عدد الفقراء.. هو وهم آخر اكبر وأخطر. إن ما نراه الآن من اعتماد ملايين الفقراء علي موائد الرحمن لتوفر لهم ما لا يجدونه في رمضان او غير رمضان، ومن تدافع علي شنط رمضان التي توزع لوجه الله أو بسبب قرب الانتخابات، ومن صراخ الناس من غلاء يطحن الجميع ويهدد بتحويل المزيد من "المستورين" إلي فقراء حتي بمقياس بعض المسئولين الذي يقول إن 165 قرشاً في اليوم تكفي لكي يصبح الإنسان خارج دائرة الفقر !! كل ذلك ليس إلا صيحة إنذار بضرورة مراجعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلي هذه الأوضاع الخطيرة، والتي أضاعت ما كان قد تحقق في ظل ثورة يوليو من خطوات هامة علي طريق العدل الاجتماعي وتقريب الفوارق بين الطبقات، ورفع الظلم الذي عاني منه ملايين العمال والفلاحين في عهود سابقة، وإتاحة الفرصة للفقراء في العيش الكريم والتعليم الحقيقي الذي فتح لهم أبواب الترقي في كل المجالات ليكونوا هم أساس تقدم المجتمع ونهضته. ما نراه الآن يقول بكل وضوح إنه لم يعد ممكنا ً الاستمرار في سياسات اقتصادية واجتماعية تؤدي إلي زيادة غني الأغنياء ومضاعفة معاناة الأغلبية العظمي من المواطنين. ولم يعد ممكناً الاستمرار في سياسات ترفض العودة للضرائب التصاعدية وتترك موارد الدولة عاجزة عن الوفاء بالالتزامات المطلوبة. ولم يعد ممكناً عدم استرداد ما تم نهبه من ارض الدولة أو ما تمت استباحته من المال العام. ولم يعد ممكناً إغفال أن الخطر الحقيقي علي استقرار المجتمع ومستقبل الوطن يأتي من هنا، وأن الحل هو في سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة تدرك حجم الخطر، وتعمل علي إقامة العدل الاجتماعي بدلاً من الاكتفاء بإقامة موائد الرحمن. آخر كلام والغلاء يطحن الناس، يبرز دور الجمعيات الاستهلاكية في مواجهة مافيا الأسواق. وهنا نذكر بالخير الدكتور أحمد جويلي وزير التموين الأسبق الذي خاض معركة صعبة ضد حيتان الخصخصة، واستطاع الاحتفاظ بهذه الجمعيات وبدأ تطويرها الذي يتواصل الآن، ولكن بمعدات لابد من مضاعفتها لمواجهة الجشع والاحتكار.. وتحية أخري لوزير الزراعة السابق أحمد الليثي الذي انهي أثناء توليه المسئولية سنوات من إهمال زراعة القمح، واستطاع الوصول بالإنتاج المحلي إلي نسبة 70 ٪ من احتياجاتنا، وبعد ذلك عادت ريمه لسياستها القديمة، لصالح مستوردي أردأ أنواع القمح . ليس أسوأ من طوفان المسلسلات التلفزيونية الذي يحاصر المتفرج، إلا هذه البرامج البلهاء التي تتصور انها ضاحكة! وليس أسوأ من الاثنين إلا برامج " كشف العورات" التي لا يخجل ضيوفها (ومعظمهم من الفنانين والفنانات)، حين يقبلون الدخول في حوار منحط مكانه الطبيعي في الكباريهات أو بيوت الدعارة، وليس علي شاشات تليفزيون تدخل البيوت ويشاهدها الكبار والصغار.