لو كانت لاتزال في واشنطن بقايا للعقلانية والحصافة السياسية والحد الأدني من مراعاة المصلحة الأمريكية ذاتها.. لكان شريط الفيديو الذي بثته القناة العاشرة للتليفزيون الإسرائيلي منذ أيام معدودة.. كافيا لكي تعيد الادارة الأمريكية النظر في مجمل سياستها نحو إسرائيل والمنطقة. وهذا الشريط يعرض لأول مرة، وكان بمثابة قنبلة مدوية شديدة الانفجار بالنسبة لجميع المعنيين بهذه المنطقة وبالصراع العربي- الإسرائيلي في انحاء العالم.. ما عدا واشنطن نفسها، رغم ان الشريط يتعلق بها في المقام الأول. وقبل الحديث عن مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، لابد من دراسة دقيقة لافكار رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما عرضها في هذا الشريط، إذ لا يمكن ان يكون صاحب هذه الأفكار يملك الحد الأدني من الاستعداد لإعادة الأرض والحقوق المغتصبة لأهلها. في عام 1002 قام نتنياهو - وكان رئيسا للوزراء- بزيارة لمجموعة من أرامل المستوطنين الاسرائيليين، الذين قتلوا في الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، في قرية »عفرا«. يقول نتنياهو للسيدات الأرامل في الشريط المسجل ان الفلسطينيين يظنون أنهم سيحطموننا، ولكن لا داعي للقلق، فان »بيبي« » نتنياهو« لديه خطة، وهي: »ضربهم، ليست مجرد ضربة واحدة، بل ضربات تكون مؤلمة للغاية وسيدفعون ثمنا فادحا يصعب تحمله.. والآن.. فان الثمن الذي يدفعونه ليس فادحا بحيث لا يمكن احتماله »!« وما اقصده هو هجوم واسع علي السلطة الفلسطينية لإجبارهم علي ان يخافوا من انهيار كل شئ«! وتوجه احدي السيدات سؤالا: »انتظر لحظة، ألا تعرف ان العالم سيقول عندئذ اننا نقوم بغزوة أخري؟« نتنياهو: العالم لن يقول شيئا، العالم سيقول اننا في حالة دفاع! سيدة: ألا تخاف من العالم يا.. »بيبي«؟ نتنياهو: »الآن بنوع خاص.. إذا تعلق الأمر بأمريكا، فانني أعرف ما تكون عليه أمريكا، انها شئ يمكن حمله علي تغيير موقفه لكي يسير في الاتجاه الصحيح«! ومعني هذا الكلام ان نتنياهو مطمئن إلي قدرته علي تغيير اتجاهات السياسة الأمريكية.. علي النحو الذي يريده!! ويتكلم أحد الأطفال الحاضرين لذلك اللقاء، الذي عقده نتنياهو في قرية عفرا: »انهم يقولون انهم معنا، ولكن ذلك يشبه.....« ويقاطعه نتنياهو بسرعة لكي يهدئ روعه: لن يوجد من يعترض طريقنا.. ولكن الطفل المتشدد.. كان لايزال متشككا.. فيقول: »ثم اننا لو فعلنا شيئا، فانهم عندئذ....« هنا يتخلي نتنياهو عن حذره، ليقول: »إذن.. دعنا نفترض انهم سيقولون شيئا ما، لقد قالوا بالفعل، قالوا بالفعل! دعهم يقولون، ان ثمانين في المائة من الأمريكيين يساندوننا، سيكون كلامهم مثيرا للضحك، اننا نملك هذا القدر من التأييد، انظر، هذه الادارة الأمريكية موالية بشدة للفلسطينيين، ومع ذلك، فانني لم اخش من ان أناور هناك، ولم اخش الصدام مع كلينتون »رئيس الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت«.. ويقول المعلق الأمريكي جاستين ريموندو ان نتنياهو.. لم يكن بطبيعة الحال، يخشي شيئا، لأنه كان يعرف انه سينتصر سواء بدعم من الجمهوريين في الكونجرس، الذين يتخذون القرارات المساندة لاسرائيل بلا قيد أوشرط، أو »الايباك« - اللوبي اليهودي- أو بقية مراكز الضغط التي تحتشد جميعها وتعبئ طابورها الخامس ضد اتفاقيات اوسلو وضد مجرد طرح فكرة التقارب مع الفلسطينيين. ويضيف المعلق الأمريكي ان حركة الليكود كانت تعتبر ان تلك الاتفاقيات هي الخنجر المصوب إلي رقبتها، حيث انها تتبني فكرة »إسرائيل الكبري«. ولذلك عندما وصفت احدي الأرامل في لقاء قرية »عفرا« اتفاقيات اوسلو بانها »كارثة«.. وافق نتنياهو علي الفور علي ما قالته، واعتبر ان له »الفضل« في تجميدها! وهنا يجب التذكير بأن حكومة حزب العمل الاسرائيلي وحلفائه هي التي وقعت علي تلك الاتفاقيات التي لاتلبي المطالب القومية للشعب الفلسطيني، وتتيح له اقل القليل. غير ان أخطر ما ورد في الشريط المسجل هو تفاخر نتنياهو بانه الرجل الذي أوقف انسحاب القوات الاسرائيلية من بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشرحه للتكتيكات »البارعة« التي اتبعها لتحقيق هذا الغرض. يقول نتنياهو ان خطته لوقف الانسحابات »التي كانت مقررة وفقا لاتفاقيات اوسلو« هي تقديم تفسيرات لها تجعل في الإمكان بالنسبة له إنهاء هذا الاندفاع نحو خطوط الهدنة عام 7691 »عدم العودة إلي خطوط 4 يونيو 7691«. يقول هذا اليميني العنصري المتطرف: »كيف نفعل ذلك؟ الأمر في غاية السهولة، فالاتفاقيات تحتوي علي منفذ للتهرب يتسع لكي تخترقه دبابة تابعة لجيش الدفاع الاسرائيلي»!« وبالتالي فان علينا ان نشترط في حالة تسليم أراضي وفقا لمبدأ »الأرض مقابل السلام«، ان تكون هذه الأرض خالية من المستوطنات أوالمواقع العسكرية«. وهنا يضع نتنياهو كل النقاط علي الحروف، يقول: »لا أحد ذكر شيئا عن تعريف المواقع العسكرية، وقد قلت ان المواقع العسكرية المحددة هي المناطق الأمنية، وبالقدر الذي يهمني، فإن وادي الأردن يشكل موقعا عسكريا..« سيدة تعلق في اعجاب علي كلام نتنياهو: صح »ضحك« الرجل جاهز لجعل معظم انحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية مواقع عسكرية واستيطانية. ويمضي نتنياهو في الحديث متباهيا بوقفته في وجه كلينتون، واصراره علي ان الاسرائيليين، وحدهم، الذين يقررون اين توجد المواقع العسكرية، وما هي هذه المواقع، وعندما لم يجد استجابة من جانب الولاياتالمتحدة لتفسيراته، رفض التوقيع علي اتفاقية الخليل، وأوقف عملية السلام في مساراتها المختلفة. ويلقي نتنياهو سؤالا علي نفسه: لماذا يشكل هذا الموضوع أهمية؟ ويرد قائلا: »في تلك اللحظة نجحت في دفن اتفاقيات اوسلو!« وعندما يقول له احد المستوطنين المتطرفين ان اتفاقية الخليل كانت تحتوي علي بعض التنازلات من جانب إسرائيل »!« نسمع رد نتنياهو الذي يلخص الموقف الحالي لحكومته في عام 0102 انه يستعيد نصيحة قالها له والده: »سيكون من الأفضل ان تعطي 2٪ بدلا من ان تضطر إلي اعطاء مائة في المائة«. ويوضح نتنياهو: »هذا هو الخيار هنا، انت تعطي 2٪ وبهذه الطريقة توقف الانسحاب، وهذا ما فعلته.. فالحيلة البارعة ليست أن تكون هناك وتنكسر، بل الحيلة البارعة ان تدفع الثمن الأقل أو الحد الأدني من الثمن«!! النفوذ الحاسم لاتباع اسرائيل في أمريكا وتأثيرهم علي صناعة القرار.. ليس جديدا.. فهذه حقيقة معروفة منذ زمن، بل ان اللوبي الاسرائيلي هناك يتفاخر بذلك، ولكن الجديد، الذي يكشف عنه هذا الشريط، هو: إلي أي حد يزدري الاسرائيليون.. الأمريكيين ويحتقرونهم. .. فأمريكا- فيما يري نتنياهو- يمكن حملها بسهولة علي تغيير مواقفها، وهو أمر »مضحك» من وجهة نظره.. وحتي الأرملة المتعصبة والقومية الغيورة لاتستطيع تخيل وجود حكومة تضع مصالح دولة أخري قبل وفوق مصالحها.. وهو ما تفعله أمريكا مع اسرائيل. وها هو نتنياهو ينظر إلي ابناء العم سام باعتبارهم من البلهاء.. وها نحن نفهم، اكثر من أي وقت مضي، طريقة تفكير نتنياهو. ومازال في الولاياتالمتحدة مفكرون ومعلقون لا يتوقفون عن اعلان الدهشة، لأن أقوي امبراطورية عرفها العالم حتي الآن تركع امام بلد يبلغ حجمه بالكاد.. حجم و لاية ديلاور الأمريكية! ويعتبر هؤلاء انه لأمر غريب وشاذ ان يتمكن رئيس وزراء بلد صغير وتافه، يعتمد في كل شئ تقريبا علي سخاء وهبات و اشنطن، من الوقوف في وجه امبراطور العالم الذي ينفق علي مؤسسته العسكرية أكثر مما تنفق جميع دول المعمورة.. وينتصر عليها!! المهم ان هؤلاء المفكرين والمعلقين علي يقين الآن من الفشل الذريع لأي محاولة لتسوية القضية الفلسطينية إذااستمر الحال.. علي ما هو عليه.