وليس كمثل يحيي الزيني من يتحدث في العمارة والعمران. إنه أكبر المعماريين المصريين سنا، أطال الله في عمره ومتعه بالصحة. فقد تخرج في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1942 وحصل علي الماجستير في العمارة والفنون الإسلامية عام 1947من جامعة القاهرة، والدكتوراه من باريس. هو شاهد علي ما حدث للعمارة المصرية وللعمران في مصر علي مدي أكثر من سبعين عاما. وكان أيضا فاعلا فيهما بقدر ما تمكن . فقد عمل في مصلحة المباني الأميرية في الأربعينيات من القرن العشرين ورأس مجلس إدارة المكتب العربي للتصميمات. ورأس جهاز بحوث ودراسات التعمير بوزارة الإسكان ، ورأس شركة التعمير والمساكن الشعبية. كما رأس لجنة العمارة بالمجلس الأعلي للثقافة . في الوقت نفسه ظل أستاذا للعمارة في كليته التي تخرج فيها. لذا استحق التقدير من الدولة التي منحته أوسمتها في جمهوريات ما بعد ثورة 1952: وسام الجمهورية عام 1955 ووسام الاستحقاق عام 1977 وجائزة الدولة التقديرية عام 1997.. يمكن لكل إنسان أن يكون ناجحا في مجال واحد، ولكن هناك بعضا من البشر يمكن أن يكون الواحد منهم ناجحا في أكثر من مجال . تماما مثل الموهبة. فالقاعدة أن يكون لكل إنسان موهبة واحدة يتميز بها ، ولكن هناك استثناء يتمتع به البعض وهو أن يكون الواحد منهم متمتعا بأكثر من موهبة.. يحيي الزيني من هؤلاء البعض، القلة أو الاستثناء. إنه موهوب كمهندس مصمم معماري، وهو موهوب كأستاذ جامعي يجيد شرح دروسه لتلاميذه ويؤثر فيهم شخصيا. لكنه أيضا مفكر يجيد التأمل والتعبير عما يتأمل فيه ويتوصل إليه من أفكار وآراء بقلم طيع رشيق . هكذا جمع يحيي الزيني بين ثلاث مواهب تعرفت عليها فيه خلال معرفتي به علي مدي ربع القرن الأخير. هو مهندس مصمم معماري متميز، وأستاذ جامعي قدير، ومفكر متأمل بعين ناقدة . وكل هذه المواهب مغلفة بإطار قوي من محبة مصر. هذه المحبة بادية في كل أعماله وأقواله . وأختصر هنا لأضرب مثالا دالا، وهو عكوفه، كعكوف الرهبان والمتصوفة، علي مشروع ضخم، لا يعرفه معظم القراء لأنه لم يحظ بإعلام مناسب، وربما لم يحظ بإعلام علي الإطلاق. ولولا أن أهداني يحيي الزيني نسخة من ملخص المشروع ما عرفت به. وأعني موسوعة »المنشآت التعليمية في مصر عبر العصور«، التي صاغها في ثلاثة مجلدات كبيرة تتبع فيها تاريخ المنشآت التعليمية في مصر وتصميماتها المعمارية منذ العصور الفرعونية القديمة (3000 سنة قبل الميلاد) وحتي القرن الماضي في العصور الحديثة، مرورا بالطبع بالعصور الوسيطة. أي أنه غطي كل تاريخ منشآت التعليم. ولم أسمع عن مثل هذه الموسوعة في أي بلد آخر متقدم أو غير متقدم. مما يعني أن يحيي الزيني سجل إنجازا وحيدا له ولمصر بين العالمين. لابد أن أحيي الهيئة العامة للأبنية التعليمية التابعة لوزارة التربية والتعليم علي إصدار هذه الموسوعة الفريدة وتمويلها. وهي موسوعة تستحق أن نفرد لها مساحة مستقلة للحديث عنها. إذ إن كثيرا من المباني التعليمية في مصر عبر العصور قد تم تدميرها أو هدمها لأسباب شتي مثلما حدث لمكتبة الإسكندرية القديمة. كما أن التنوع الكبير في الحضارات والثقافات التي عاشتها مصر انعكس علي تصاميم مبانيها التعليمية مما شكل بلا شك ثراء معماريا ومعرفيا لها. وتكفي هذه الثروة الهائلة من الصور والخرائط والرسومات الهندسية التي لا أعرف كيف تمكن يحيي الزيني من إعدادها. أرجو أن تكون هذه الموسوعة متاحة لطلاب العلم والمعرفة والمتخصصين والراغبين بسعر مناسب. بمحبة ، وعرفان بقيمة يحيي الزيني، وبعد متابعة لأبحاثه ودراساته وكتاباته المتنوعة . عرضت عليه أن يجمع المادة التي انشغل بها ومنحها وقته الثمين علي مدي السنوات الماضية، علي أن يصدرها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري في كتاب. وهذا جزء من وظيفة الجهاز في نشر ثقافة التنسيق الحضاري. مثلما فعلت من قبل مع كاتبنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين ، وجمعنا له مقالات لم تنشر في كل كتبه السابقة . وكانت مقالات وثيقة الصلة بالعمران وبالأخص بأسس التنسيق الحضاري قبل أن يصك هذا التعبير، لذا أطلقت علي كتابه »مقالات في التنسيق الحضاري« علي الرغم من أنه ترك عالمنا قبل أن يعرف بنشوء الجهاز. كذلك فعل أستاذنا الدكتور يحيي الزيني. جمع في كتابه الجديد الذي نحن بصدده، تفصيل فكره وآرائه في الموضوعات التي اهتم بها، وقد أطلق عليه عنوانا ذا دلالة »المدينة بين التنسيق والتأصيل«. وكان يحيي الزيني من أوائل المتحمسين لفكرة إنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري والمشجعين لها. وقد عبر عن هذا في مقالات منشورة وفي ندوات ومؤتمرات حضرها. ونحن نشرف به عضوا في اللجنة النوعية العلمية للمباني والمناطق التراثية في الجهاز. وهو حريص علي حضور اجتماعاتها رغم تقدمه في السن ، ويضرب مثالا يحتذي به في احترام المواعيد وفي أسلوب عرض الأفكار والمناقشة. إذن هذه فرصة لا يجب أن يفوتها القراء، وبخاصة المتخصصون والمهتمون، في الاقتراب من فكر يحيي الزيني المعماري والحضاري. يحدثنا في هذا الكتاب عن ضرورة الحفاظ علي ذاكرة المدينة، وعلي القيم الحضارية في البيئة العمرانية، وأهمية المشاركة الأهلية في هذا الحفاظ . ويستعرض لنا الزيني بعينه الخبيرة مشاهد معمارية متميزة كمسجد السلطان حسن في القاهرة وميدان الكونكورد في باريس. وعبر أستاذنا عن أهمية إعادة التوازن المفقود في العمران المصري. لذلك من المهم إثارة الوعي بالبيئة العمرانية في مدننا وقرانا. ومن القضايا التي تحتاج إلي اهتمام ووعي خاص قضية الحفاظ علي حدائقنا التاريخية باعتبارها تراثا معماريا يتآكل بفعل أيدينا ، وما جري لحديقة الازبكية في قلب العاصمة شاهد حي علي هذا التآكل الشديد.. يخصص الدكتور يحيي الزيني فصولا عدة في كتابه هذا لموضوعات التنسيق الحضاري من وجهة نظره. ويربط هذا التنسيق بالتنمية، ويضع عملية التنمية بين نقيضين هما علي حد قوله »تخلف التنمية وتنمية التخلف«. يرجع ليحيي الزيني الفضل في اهتمام المجالس القومية المتخصصة بنهر النيل الذي يطفو علي سطح أحداثنا رغما عنا وكنا قد أهملنا الحديث عنه طويلا. ومازلنا نهمل نهر النيل رغم كثرة الحديث عنه الآن. أذكر أنني دعيت في العام الماضي إلي اجتماع في المجالس القومية المتخصصة للحديث عن علاقة القاهرة بالنيل في إطار التنسيق الحضاري. وقد اكتشفت في بداية هذا الاجتماع أن وراء انعقاده الدكتور يحيي الزيني بصفته عضو المجلس، وقدم ورقة مهمة في هذا الموضوع أتاح للقراء مطالعتها في هذا الكتاب الجديد. وقد أبدي آراء يجب الأخذ بها إذا كنا بالفعل حريصين علي النيل، أو إذا كنا حريصين علي حياتنا. فالنيل لنا هو الحياة، ولا حياة بغيره. وقد حضر هذه الجلسة الوزراء والمحافظون المعنيون بالموضوع وسمعوا ما قيل. لم يكتف الدكتور الزيني في هذا الكتاب بالأبحاث والمقالات النظرية علي أهميتها . بل تناول أمثلة عملية كنماذج للمساعدة في حل مشكلات العمران وتحقيق التنسيق الحضاري فيه. مثل حديثه عن مشكلات التعامل المنتهك للشارع المصري وظيفيا وجماليا، وظواهر قلة الذوق العام في سلوك معظم المصريين في هذا الشارع أو في الفراغ العمراني بشكل عام. وافتقاد الجمال وأعمال الفن العام في المساحة الأكبر من عمراننا المأهول. ومن باب التكامل أنه عرج علي كليته الأثيرة والرائدة وهي كلية الفنون الجميلة التي احتفلنا بمرور مائة عام علي إنشائها في العام الماضي. وكذا تناول دور المتاحف في مصر كمرجع عمراني فني مهم. لا تفوتني هنا الإشادة بدور الرسومات المعمارية والتوضيحية والصور الفوتوغرافية التي تفضل الدكتور يحيي الزيني بتزويد الكتاب بها من مكتبته الخاصة ومنها كثير من أعماله وصوره التي التقطها بنفسه. حتي تكتمل الفائدة من هذا الكتاب، المرجع المهم، الذي يستحق عليه أستاذنا المعماري المفكر المعلم الفذ كل الشكر والتقدير والامتنان.