يشعر الزائر إلى لندن في هذه الأيام بأن أخبار انسحاب القوات البريطانية من وسط مدينة البصرة تطغى على ما عداها، ويبدو بوضوح أن البريطانيين يعيشون على العموم وسط شعور بالصدمة، ليس فقط من جراء النهاية المأساوية التي آل إليها مشروع الحرب على العراق، بل للعدد الذي بلغه رقم القتلى في صفوف قوات بلادهم وهو 168 قتيلا، وذلك يتجاوز عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية، بالقياس إلى العدد الإجمالي. وأكثر من هذا وذاك هناك قناعة لدى البريطانيين وهي ان هزيمة سياسية قاسية لحقت ببلادهم. وخصصت صحيفة “الاندبندنت” صفحتها الأولى الثلاثاء الماضي للموضوع، ونشرت صورة للرئيس الأمريكي جورج بوش مع ما جاء على لسانه بأن نجاح العمليات في العراق سيسمح بتخفيض واشنطن لعديد قواتها هناك، بينما احتلت النصف الثاني من الصفحة صورة كبيرة للمدرعات البريطانية، وهي تنسحب من وسط البصرة وكتب تحتها: البريطانيون يسلمون البصرة للعراقيين: هروب. وفي نفس اليوم قالت صحيفة “الديلي تلجراف” انه “يبدو أن القوات البريطانية عقدت صفقة مع مقتدى الصدر ليتم الانسحاب بسلام، بينما شهد الشهر الأخير استهداف البصرة يوميا بواسطة قذائف الهاون”. ولكن الأمر الأكثر قسوة بالنسبة للبريطانيين هو النتيجة التي آلت إليها المهمة من الناحية السياسية، وقد لخص ذلك المحرر السياسي لصحيفة “التايمز” ريتشارد بيستون الذي عنون تعليقه ب “انتصار لإيران وقلق لجيرانها”. وقال إن طهران سوف تنظر إلى هذا الانسحاب على انه انتصار كبير لسياساتها، التي تقضي بتشجيع الميليشيات الشيعية على مواجهة القوات البريطانية والأمريكية. وعن ردة فعل جيران العراق، أكد أن خطوة الانسحاب البريطاني سوف ينظر إليها على أنها انتصار لإيران في بلد عربي مهم، ومن شأن ذلك أن يقلق خاصة الكويت المجاورة للبصرة. ويعتقد ضابط بريطاني متقاعد رفض ذكر اسمه، بأن انسحاب القوات من البصرة يمثل بداية النهاية لإحدى المهمات العسكرية الأكثر فشلا في تاريخ الجيش البريطاني، والدليل على ذلك أن سكان البصرة، والميليشيات المنتشرة في المدينة، والعالم كله لا ينظرون إلى هذا الانسحاب على انه انسحاب منظم، وإنما على انه فشل مخز، لا سيما وان الميليشيات أصبحت أكثر قوة وانفلاتا مقارنة بما كان عليه وضعها في الماضي، واستشهد هذا الضابط في لقاء مع “الخليج” بتقرير نشرته صحيفة “الصنداي تايمز” نقلت فيه من واشنطن تحذيرات المستشارين العسكريين لبوش، من أن القوات البريطانية سوف تجبر على الانسحاب “بطريقة بشعة ومحرجة”. ويرى أن مهمة هذه القوات في جنوب العراق لم تكن ناجحة منذ البداية، لأنها استندت الى تقديرات خاطئة بأن اسقاط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين سوف يدفع العراقيين للترحيب بجيوش الاحتلال. ورغم ان ذلك لم يحصل فإن المسؤولين لم يقوموا بوضع استراتيجية بديلة. وتساءل ما الذي فعلناه في البصرة لكي نجعل حياة العراقيين أفضل منذ سنة 2003؟ لا شيء ها هي قواتنا تنسحب هناك تاركة المدينة وسط فوضى، لم تعرف لها مثيلا حتى في أحلك فترات تاريخها. وتؤكد المصادر كافة في لندن أن الجنود البريطانيين المتمركزين في البصرة، كانوا يعيشون تحت حصار حقيقي في ظل تعرض القصر الذي كانوا يشغلونه باستمرار، إلى هجمات بالصواريخ وقذائف الهاون، وهم يدربون القوات العراقية على تولي المهام الأمنية في المدينة. وفي نفس اليوم نشرت صحيفة “الاندبندنت” صورة لجنود بريطانيين منبطحين أرضا، وهم في وضع قتالي، وتساؤلاً يقول: قضينا أربع سنوات في البصرة فماذا حققنا؟.ويقول كاتب المقال ان انسحاب القوات البريطانية من آخر قاعدة داخل جدران مدينة البصرة هو مؤشر على رغبة لندن، في فك ارتباطها بكل ما يتعلق بالنزاع القائم هناك. كما يسلط الضوء على تزايد الخلافات بين واشنطنولندن بشأن العراق، ولاسيما أن الأمريكيين يقولون إن هذه الخطوة ستؤدي إلى الإخلال بالأمن بشكل كبير، وكذلك ستعرض خط إمداداتهم القادمة من الكويت للخطر. وفي هذا الاتجاه كشفت صحيفة “صنداي تايمز” بأن القيادة الميدانية البريطانية في البصرة أعلمت رئيس الحكومة البريطانية بضرورة سحب الجنود ال 5500 من جنوب شرقي العراق، “لأنهم لن يستطيعوا تحقيق أكثر مما قاموا به حتى الآن”. وتؤكد أوساط إعلامية بريطانية أن الإدارة الأمريكية تنظر إلى قرار لندن مقاومة ضغوطها المتزايدة، على انه مؤشر على الرغبة العارمة التي تحدو براون إلى فك ارتباط حكومته بالمأزق العراقي، وذلك رغم تأكيدات رئيس الحكومة جوردون براون على أن واشنطنولندن على نفس الخط في العراق. وقد لخصت صحيفة “التايمز” الموقف فوصفت الانسحاب البريطاني ب “الرمزي”، بينما يعتبره قطاع من الرأي العام في المملكة المتحدة بأنه انسحاب سياسي لتمييز بريطانيا عن سياسة توني بلير، ومقدمة لانسحاب أمريكي من العراق. ولكن في جميع الأحوال لم يعد وسط البصرة تحت السيطرة البريطانية، الأمر الذي ستكون له تداعياته خلال وقت قريب.