في الخامس عشر من شهر يونيو الماضي أعلن جوردون براون، إجراء تحقيق جديد هو الخامس من نوعه بشأن الحرب في العراق لاستجلاء ملابساتها والإجابة على العديد من الأسئلة حول تورط بريطانيا في تلك الحرب التي يعتقد كثيرون أنها شُنت على أسس مغلوطة. وفي 29 من شهر يناير الماضي تم استدعاء بلير للإدلاء بشهادته التي امتدت لست ساعات كاملة. ورغم مرور سبع سنوات على اجتياح العراق مازال الحدث يثير الكثير من الجدل في أوساط الرأي العام البريطاني بسبب الشكوك التي تحيط بدوافع الحكومة التي كانت قائمة وقتها للانخراط في حرب لم تتأكد الحاجة إليها، ما يجعل من المهم الاستماع إلى الساسة الذين صنعوا الحرب والإصغاء إلى مبرراتهم. وعن شهادة بلير، كتب "أنتوني سيلدون"، كاتب سيرة بلير، في صحيفة "التايمز" بتاريخ 29 يناير الماضي قائلا: "على غرار ما مثلته ميونيخ بالنسبة لينيفيل شامبرلين وأزمة قناة السويس بالنسبة لأنتوني إيدن، تلقي اليوم الحرب في العراق بظلالها على مجمل فترة بلير في رئاسة الوزراء، مغطية بذلك على ما حققه من إنجازات طيلة عشر سنوات التي قضاها في منصبه". والفرق بين الحالات السابقة التي تورط فيها رؤساء الوزراء البريطانيون في سياسات غير شعبية وتحركات عسكرية مريبة، مثل أزمة قناة السويس، أنهم لم يضطروا للمثول أمام لجنة تحقيق والإدلاء بشهاداتهم حول الأحداث التي جرت وكانوا مسؤولين عنها بشكل مباشر، بينما يواجه بلير المحققين والرأي العام، ليس أمام نواب البرلمان البريطاني، بل أمام لجنة للتحقيق معينة من قبل الحكومة. ويوضح سيلدون تداعيات التحقيق بقوله: "ما هو على المحك هو أكثر من مجرد مكانة بلير الشخصية التاريخية، وكيف ستتذكره الأجيال، إن الأمر يتعلق أساسا بمكانة بريطانيا في العالم وبسلطتها الأخلاقية التي تعرضت للتآكل بسبب الحرب في العراق، والأكثر من ذلك، تضرر العلاقة بين الحكومة والرأي العام البريطاني الذي بات أكثر تشككا في نوايا صناع القرار، لاسيما بعدما دخل في حرب بنيت على العديد من المغالطات وسيقت من أجلها تبريرات ثبت لاحقا أنها واهية وغير قائمة على أساس متين، كان بلير دور كبير في تسويقها للجمهور". وكرجل عارض الحرب منذ البداية، واعتبرتها فشلا ذريعا للسياسة الخارجية البريطانية التي ارتهنت على ما يبدو للمحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة الأميركية، أعجبني كثيرا مثول بلير أمام لجنة للتحقيق وإدلائه بشهادته لتوضيح ما جرى وقتها، وكيف اتخذ قرار شن الحرب بشراكة مع الرئيس بوش... لكن رغم ذلك لابد من الاعتراف أن بلير الذي بدا في بداية التحقيق مرتبكا، إلا أنه سرعان ما تمالك نفسه وأبلى بلاء حسنا في الدفاع عن نفسه وإنقاذ تركته السياسية بعدما اعترتها شوائب التدليس والكذب. فقد تحدى منتقديه وواجههم بقوة عندما أعلن بأنه ليس نادما على الإطاحة بنظام صدام حسين، وبأنه سيعيد الكرة مرة أخرى لو أتيحت له الفرصة، ولو عرضت عليه الحقائق والمعطيات ذاتها التي ينظر إليها العديد من المراقبين اليوم بعين الشك. ثم دافع عن موقفه بالقول: "لقد اضطررت لاتخاذ قرار سريع وحاسم، وأعترف أن المسؤولية كانت كبيرة، والحقيقة أنه لا يمر يوم دون أن أعيد التفكير في تلك المسؤولية التي كانت ملقاة على عاتقي، لكني مع ذلك أعتقد بأننا لو تركنا نظام صدام حسين في السلطة حتى في ظل ما نعرفه اليوم، كنا سنضطر للتعامل معه لاحقا في ظروف ربما تكون أسوأ". وأضاف بلير لتوضيح موقفه أكثر: "وإذا ما سئلت عما إذا كنا اليوم أكثر أمنا، وبأن العراق أفضل حالا، وبأن الوضع الأمني أحسن من ذي قبل عندما كان صدام وأبناؤه في السلطة... لأجبت بكل ثقة: نعم، لقد بتنا أفضل حالا اليوم". وبكثير من الذكاء والمراوغة وجه بلير مسار جلسة الاستماع صوب المستقبل طارحاً سؤالا على اللجنة حول مآل الولاياتالمتحدة وبريطانيا في حال كانتا فقدتا أعصابهما في العام 2003 وسمحا لصدام بالاستمرار في برنامج الأسلحة النووية، مشيرا إلى أن إيران اليوم تمثل تهديدا أكبر على بريطانيا مقارنة بالعراق في عام 2003، في تلميح واضح ربما لضرورة التشدد معها وانتهاج الأسلوب ذاته في التعامل معها. ولا شك أن رئيس الورزاء السابق هيأ دفاعه جيدا، بحيث نصحه مستشاروه بضرورة الاعتراف ببعض الأخطاء لكن دون الإغراق في إبداء الندم، وأضاف بأن تصريحه السابق حول أسلحة الدمار الشامل العراقية وقدرة النظام على إطلاقها في غضون 45 دقيقة، كان المقصود به الأسلحة قصيرة المدى المستخدمة في المعارك، وليس الأسلحة الاستراتيجية العابرة للقارات. لكنه في الوقت نفسه يقر بخطئه عندما قال في لقاء مع "بي. بي. سي"، إنه كان سيعمل على الإطاحة بصدام حتى لو تبين له أنه لا يملك أسلحة الدمار الشامل. وعندما سئل بلير في ختام الجلسة من قبل "السير جون سيلوت"، رئيس لجنة التحقيق، ما إذا كان نادما على شيء؛ رفض إبداء الندم، وهو أمر أثار غضب أسر الضحايا الذين فقدوا أقرباءهم في حرب العراق. غير أن الجهد الواضح الذي تبذله الحكومة البريطانية للنبش في أحداث الماضي ومحاولة فهم ما جرى في حرب العراق، لا يعفيها من بعض التحفظات مثل التوقيت السيئ لإجراء التحقيق، وعدم ترؤس اللجنة من قبل قاض، فضلا عن الاعتراضات حول بعض أعضائها، ومع ذلك لابد من الإشادة بالتحقيق كونه فرصة لتعزيز ثقة الرأي العام في المؤسسات الحاكمة، وتكريس مبدأ المحاسبة بالنسبة للسياسيين الذي تركوا مناصبهم العمومية، وهو ما عبر عنه السير "كين ماكدونالد"، المدير السابق للادعاء العام عندما كتب مرة: "لم يعد الرأي العام مستعداً للتعامل معه كمتطفل ينظر من الخارج إلى ما يجري في بلد يلفه الغموض، بل من حقه الاطلاع على الطريقة التي تدار بها شؤونه". *نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية