الأصل في المباريات الرياضية أنها تقيس مدي الكفاءة الفنية والصحية للاعبين ومدربيهم وللإدارات التي ترعاهم, وأنها تنطلق من اعتراف مسبق بأن هناك فائزا وهناك غير فائز. والأصل أيضا أن تبقي العلاقة بين الرياضيين في حدود المنافسة الشريفة داخل وخارج الملاعب, فإن تجاوزت ذلك الي صداقات إنسانية بين اللاعبين والمدربين أو الي مصالح متبادلة بين الإدارات الرياضية في شكل تعاقدات وإعارات أو حتي تنظيم الاعلانات التجارية فليكن ذلك علي الرحب والسعة, أما إذا تجاوزته الي نطاقات أخري يدخل فيها التدليس أو الاحتيال من أجل الفوز, أو ممارسة ضغوط نفسية وعصبية كإهانة أشخاص اللاعبين والخوض في اخلاقهم وحياتهم الخاصة أو إهانة البلاد التي ينتمون اليها أو تخريب مرافقها.. فإن الرياضة بذلك تخرج عن توصيفها الصحيح. ولأن كرة القدم في بلادنا تعتبر الرياضة الأكثر ذيوعا وشعبية فإن الاهتمام بها إعلاميا وعلي مستوي الجماهير وأصحاب الإعلانات التجارية يحظي بأسبقية غير عادية, وفي بعض الأحيان يشترك القادة السياسيون أيضا في هذا الاهتمام من باب الدوافع الوطنية أو من باب التقرب الي قلوب الجماهير واكتساب مزيد من الشعبية بين صفوفها. ومن ناحية أخري, فإن كرة القدم تعتبر أحد مجالات التنفيس المهمة له خاصة إذا كانت تلك الجماهير تعيش ظروفا اجتماعية واقتصادية صعبة, أو كانت تفتقر الي مشروع وطني أو قومي واضح ينتظمها ويوظف حماسها الجمعي أو تفتقر الي قنوات كافية ومتاحة للتعبير التلقائي عن آمالها وآلامها. تلك مقدمة في الأصول المبدئية والبديهية للرياضة عموما, وفي تفسير ما يحيط لعبة كرة القدم منها علي وجه الخصوص من مظاهر اهتمام غير عادي في بعض مناطق من العالم دون أخري. ولكن ما يهمنا الآن هو فحص أسباب التوتر الذي يسود الأوساط الرياضية والاعلامية وجماهير المشجعين عند معظم اللقاءات التي تجري بين فرق عربية أو افريقية خصوصا حين تكون هناك لقاءات مصرية مع فرق بعينها تنتمي الي نفس المنطقة. وقد تمثل نظم المسابقات العالمية المعمول بها حاليا في ذاتها مكونا أساسيا من مكونات هذا التوتر وذلك بما تحمله من تضييق شديد في فرص المشاركة في هذه المسابقات أمام الفرق العربية والإفريقية, وربما يختلف مستوي هذا التوتر إذا ما كان لإفريقيا حظ المشاركة بضعف العدد المسموح لها به في اطار النظام الحالي, أو إذا ما تغير نظام التقسيم القاري أو الأساسي الجغرافي للتصفيات. ولكن يبقي السؤال: في كل الأحوال لماذا يزداد التوتر حجما ونوعا حين الالتقاء بين فرق بعينها داخل الاقليم القاري الواحد؟ ولماذا يخف التوتر الي حد كبير عند لقاء الفرق الإفريقية أو العربية بفرق اخري أوروبية أو أمريكية أو أجنبية؟ أليس من المفترض ان يكون لقاء الجيران بالجغرافيا والأشقاء في التاريخ القومي والنضالي أكثر دفئا وحرارة وأقل انفعالا وتوترا؟ أم تري الفكر الاستعماري التنفيذي قد نجح في أن ينقل مشاعر التحفز والصراع لتكون بين صفوف المناضلين أنفسهم ولينعم الآخرون بعد ذلك بنتائج التصفية والتفتيت؟. ولست أود أن أسوق هذا التفسير المحتمل دون الاعتراف بما قد تحمله ظروفنا العربية والافريقية الذاتية من أسباب اخري محتملة كاستمرار الروح القبلية والسلوك العشائري في ثقافتنا القطرية والقومية رغم كل المستحدثات الاقتصادية ومظاهر التنظيم المدني ومؤثرات العولمة التي دخلت حياتنا, وقد يرجع بعضها الآخر الي شيوع ثقافة العطاء المشروط أو العطاء المصحوب بالمن والاستعلاء في بعض جوانب علاقاتنا البينية, وربما أيضا بسبب غياب الفاعلية الكافية للنظم الاقليمية القائمة في الاطار العربي والاطار الافريقي, وعلي الأخص في جوانبها وبرامجها الثقافية والاجتماعية والتربوية. وبمناسبة اللقاء المصري الجزائري المرتقب في اطار التصفيات المؤهلة لكأس العالم, فإن جماهير المشجعين والإعلاميين والرياضيين وموجهي الرأي العام في البلدين مطالبون أولا بإدراك الظروف والابعاد المشار اليها سابقا ثم الارتفاع فوقها والتحكم بقدر الامكان في إفرازاتها, وهم مطالبون قبل ذلك وبعده باستحضار قصص الأخوة وصور البذل والتضحية المتبادلة التي عرفها الشعبان الشقيقان في تاريخهما الطويل, وعلي كل مصري وكل جزائري ان يدرك ان مباراة لكرة القدم بين فريقي البلدين مهما كان الشرف الافريقي الذي يترتب علي نتائجها ينبغي ألا تغطي علي أو تفسد شرف العطاء القائم بالتبادل بين الشعبين في مجالات النضال الوطني والقومي وفي مجالات البناء والتعمير والاستثمار والاتصالات والتعليم والتنسيق الدبلوماسي, ولن يسمح الشرفاء والمخلصون في البلدين بأن تكون كرة القدم أهم من التاريخ والجغرافيا.. ومن مستقبل يجمعنا معا. نقلا عن صحيفة الاهرام