استطاعت الصين حل المعادلات الصعبة التي واجهتها وسارت بجدية شديدة لتحقيق الهدف, الذي حددته في عام1978 ولايزال هذا هو الهدف الي اليوم وهو التخلص من الفقر والتخلف وتغيير الحياة الراكدة العقيمة التي عاقت تقدمها. التحدي الأول كيف توفر الغذاء لأكثر من1200 مليون انسان وكان الحل تحديد النسل والاعتماد علي الذات في انتاج المحاصيل الغذائية الأساسية, وكأنهم طبقوا الحكمة المصرية من لا ينتج قوته لا يملك حريته. وكان التحدي الثاني كيف يمكن صياغة العلاقات التجارية والسياسية مع الولاياتالمتحدة دون أن تفقد الصين استقلالها وتقع في فخ التبعية, ووجدت الحل في الاعتماد علي النفس أيضا وعندما وصلت الي مرحلة امتلاك المعرفة والتكنولوجيا ونجحت في بناء اقتصاد قوي استطاعت صياغة علاقة مع الولاياتالمتحدة أقوي دولة في العالم قائمة علي الندية, علاقة فيها الخلاف والاتفاق, وفيها الصراع والتعاون, وفيها التحدي وتفادي الصدام, ولعلنا نذكر عندما اسقطت الصين طائرة تجسس أمريكية في أراضيها, وكيف استخدمتها ورقة للضغط علي الإدارة الأمريكية في عهد بوش, وبعد مفاوضات طويلة سلمتها مفككة داخل صناديق بعد ان كشفت بالقطع أسرار هذه الطائرة, ونذكر زيارة الرؤساء الأمريكيين الي بكين لاقناعها باستيراد المزيد من المنتجات الأمريكية لسداد جزء من ديون أمريكا لها نتيجة اختلال الميزان التجاري بين البلدين لصالح الصين, ولكن القادة الصينيين كانوا يجيبون دائما بأن الأمر ليس بأيديهم, وأن المواطن الصيني يفضل منتجات بلده حتي وان كانت أقل جودة(!). وعندما أرادت الصين أن تصبح نقطة ارتكاز المنافسة العالمية بدأت بالانسان: بالتعليم والتدريب حتي أصبح العامل الصيني هو السر الأعظم للتقدم الذي حققته ويعتبره العالم معجزة, فهو يتمتع بالمهارة والدقة ويعمل طول الوقت دون كلل أو محاولة للتهرب أو التمارض, ربما لأن العقيدة الكونفوشية غرست في الصينيين أن العمل عبادة فهم يطبقون ذلك حرفيا, ولو أنك شاهدت العامل في مصنع من المصانع لوجدته مستغرقا بكامل طاقته في العمل وكأنه في صلاة. وأمام تحدي العولمة توصلت الصين الي حل عبقري, فقد اندمجت في الأسواق العالمية واستفادت من الميزات النسبية التي تتمتع بها منتجاتها, وفتحت أبوابها للاستثمار الأجنبي بشروط, وفي نفس الوقت وقفت بصلابة في مفاوضاتها مع منظمة التجارة العالمية للدخول في عضويتها, ورفضت شروط المنظمة التي كانت مصممة علي أن تكون عضوية الصين باعتبارها من الدول المتقدمة, وظلت الصين متمسكة بأن تكون عضويتها باعتبارها دولة نامية لكي تحصل علي الاعفاءات والامتيازات والتسهيلات الممنوحة للدول النامية, وبالصبر الصيني المعروف استمرت المفاوضات خمسة عشر عاما الي ان سلمت المنظمة بشروط الصين, وكانت بذلك اخر دولة تنضم الي المنظمة... وأثبتت بذلك أن في الامكان الصمود أمام المؤسسات الدولية التي تمثل العولمة وتكرس الهيمنة الأمريكية, وفي نفس الوقت فتحت الباب للاستثمارات الأمريكية في مجال التكنولوجيا الحديثة فقط, ومع ذلك وضعت قيودا علي الصادرات الأمريكية في مجالات معينة مثل توليد الطاقة, والصناعات الدوائية, والآلات, والاتصالات عن بعد, واحتفظت بقدرتها علي اتخاذ مواقف سياسية مستقلة في القضايا الدولية تتعارض مع السياسات الأمريكية وتعوقها في بعض الأحيان, دون أن تصل الي مرحلة الصدام! التحدي الأكبر كان في كيفية الانتقال من مرحلة الصناعة التقليدية البدائية الي الصناعات الحديثة, علي الرغم من القيود التي تفرضها الدول المتقدمة علي نقل التكنولوجيا المتقدمة, لكنها استطاعت إنشاء مدن لصناعة الصواريخ, والأقمار الصناعية, وأقمار التجسس, والمفاعلات النووية, والالكترونيات, والألياف الضوئية, ومعدات الليزر, وشبكات الانترنت, والجيل الثالث من التليفون المحمول, وغيرها من المنتجات التكنولوجية المعقدة.. ومن الطبيعي أنها لم تحصل علي هذه التكنولوجيا بسهولة, ولكنها استطاعت كسر الحصار التكنولوجي بالاعتماد علي الهندسة العكسية, وبانشاء مراكز للأبحاث تركز علي الأبحاث التي تحتاجها عملية تطوير الصناعة, والاستفادة من ابنائها العائدين من البعثات الدراسية في الخارج, وأبنائها الذين يعملون في الدول الكبري, والمواطن الصيني يظل ولاؤه لبلده وانتماؤه اليه مهما طالت اقامته خارج وطنه, ويظل محتفظا بخصائصه الصينية, ولذلك تجد في المدن الكبري في الولايات والدول الأوروبية أحياء صينية حولوها الي قطعة من الصين, وتجد فيها كل شيء وارد من الصين حتي الخضراوات والأدوية, فالصيني كما يقولون يحمل ا لصين معه الي أي مكان في العالم. وأصعب المعادلات التي وجدوا لها حلا هي الجمع بين اقتصاد السوق وقطاع عام قوي وتخطيط مركزي شامل فيما يسمونه اقتصاد السوق الاشتراكي وسبقوا بذلك أصحاب نظرية الطريق الثالث التي تجمع بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية ودور الدولة في التنمية وتوجيه الاقتصاد. تواكب ذلك مع اصلاح النظم الإدارية والتشدد في الرقابة والمحاسبة لأن الانفتاح الاقتصادي يفتح الباب عادة للفساد والانحراف الإداري.. أما طريقتهم لجذب الاستثمارات الأجنبية فلم تعتمد علي ترك البلد مستباحة للأجانب بل اعتمدت علي أن تكون استثمارات الأجانب لخدمة أهداف الصين ومصالحها. وليس هذ*صحيفة الأهراما كل شيء