** السياسة هي لعبة المصالح المشتركة.. درس مهم يلخص التجربة التشادية التي تعيد إنتاج أزماتها بالطريقة نفسها في بلد لم يعرف الاستقرار منذ نحو نصف قرن إلا لأعوام قليلة في منتصف التسعينيات سرعان ما انتهت بانفراد الرئيس إدريس ديبي باللعبة التي يشارك في تحريكها أطراف متعددة. لقد صاحب تشاد سوء الحظ سياسيا منذ استقلالها عن فرنسا في1960, إذ لم يتسن لها قط التقاط أنفاسها لبناء مشروع الدولة ذات الهوية الواضحة دون ارتكان علي غرب فرنسي يتحرك وفقا لأجندته, أو شرق سوداني يتقلب تقلب الفصول, ونظرا لوقوع تشاد في المنطقة الوسطي بين كل ما هو إفريقي, وكل ما هو عربي انعكس ذلك علي سياساتها المرتجلة التي تفتقد بوصلة تحديد الاتجاه نحو جنوب إفريقي الهوية يقيده الفقر والتخبط أو شمال ليبي غني تطارده أحلام الوحدة المستحيلة في ضوء أولويات تفرضها متغيرات من خارج القارة الإفريقية لا من داخلها, وفوق ذلك كله تعصب قبلي داخلي ينتظر الشرارة الأولي ليفتك أطرافه ببعضهم البعض دون غالب أو مغلوب, وازدادت الصورة قتامة وتعقدت ملامحها مع اندلاع أزمة دارفور في2003 في سودان يقال انه يسعي إلي تطهير غربه من مواطنيه ذوي الجذور الإفريقية,وشرق تشادي يتردد انه يهدف الي الانتقام من ابناء القبائل العربية في المنطقة. وفي إطار الكراهية المتبادلة تمت عمليات طرد وشد وجذب تحت تهديد السلاح يعاني منها حتي الآن نحو250 ألف لاجئ سوداني من ذوي الجذور الإفريقية موزعين علي12 مخيما في شرق تشاد, و120 ألف نازح تشادي بين عرب وأفارقة في ردود فعل ثأرية بين أبناء القبائل الست والعشرين المنتشرة علي امتداد الحدود التشادية السودانية. المعارضة شوكة في جنب النظام تعد المعارضة التشادية علي الرغم من هشاشة تنظيمها وضعف التمويل الموسمي ومحدوديتها الأيديولوجية( الفكرية) شوكة في جنب النظام التشادي الرسمي الذي يسعي لنزعها في مهمة تبدو من رابع المستحيلات نظرا لتشرذم تلك الجماعات المسلحة التي تتخذ من الصحاري والوديان مأوي لها في أسلوب أقرب لحرب العصابات من كر وفر في مواجهة الجيش التشادي النظامي الذي يعاني أيضا بدوره من فقر العتاد وركاكة التنظيم وتشوش رؤية التحركات العسكرية التي تتسم بالتلقائية الأقرب للفوضي التي تدور في الأماكن المفتوحة علي أطراف القري والمدن بعيدا عن المناطق المأهولة التي يتميز أهلها غالبا بالحياد السلبي. وتتسبب تلك المعارك التي تتم وجها لوجه بين القوات النظامية والمعارضة في سقوط العشرات من القتلي والجرحي الذين يموت أغلبهم ويتم دفنهم في أماكن سقوطهم بينما قادتهم من حكومة أو معارضة يؤكدون انتصاراتهم المتتالية لوسائل الإعلام, خاصة راديو فرنسا الدولي الذي يعد بمثابة البوق الأوحد في المحيط التشادي لاستقاء الأخبار. وعلي الرغم من صعوبة رسم خريطة كاملة للمجموعات المسلحة المعارضة التشادية التي تتسم بالسيولة التي يصعب معها أحيانا ملاحقة أخبار الانشقاقات والتحالفات الجديدة, يمكن القول إن هناك مجموعة من الأسماء التي تتحكم في تشكيل جبهة المعارضة الأساسية التي شاركت في هجوم يناير الماضي علي العاصمة التشادية أنجمينا وهي: اتحاد القوي من أجل الديمقراطية الذي يقوده محمد نوري, وهو وزير سابق عمل لفترة مع ديبي ثم انشق عنه. تجمع القوي من أجل التغيير الذي يتزعمه تيمان إرديمي وشقيقه التوءم توم أبناء عمومة ديبي نفسه الذي احتواهما في بداية سنوات حكمه وتحكما في تجارة القطن حتي قبيل الانقلاب علي ديبي لاستبداده ولعبه بالجميع كما يؤكد الشقيقان. اتحاد القوي من أجل الديمقراطية والتنمية بقيادة عبدالواحد عبود مكاي. بالإضافة إلي أسماء أخري سعي ديبي بنفسه إلي تحييدها باتفاقيات تحت رعاية ليبيا, أو حرق أوراقها كما حدث مع وزير دفاعه السابق محمد نور عبدالكريم الذي ضمه ديبي في صفقة إلي مجلس وزرائه في بداية2007, وتمت الصفقة التي انتهت قبل أن يدور العام بعبدالكريم لاجئا شبه مسجون في بيت السفير الليبي في أنجمينا ومعناها في العامية التشادية الاستراحة . الصديق اللدود في الهجوم الأخير علي العاصمة التشادية, انتقد الموالون للنظام التشادي موقف فرنسا, التي يوجد لها نحو1500 جندي في تشاد, من حليفها الرئيس التشادي ديبي 56 عاما وخاصة بعد عرضها نقله إلي مكان آمن وهو ما لا يتفق ورد الفعل الفرنسي في أبريل2006 عندما تعرضت العاصمة للهجوم نفسه علي يد قوات المعارضة التي فشلت في استكمال مهمتها بسبب الدعم المعلوماتي والتنظيمي من جانب القوات الفرنسية المرابضة في القاعدة الفرنسية ب أنجمينا, وقد اكتفت فرنسا في هذه المرة بالتنديد وتأمين طريق المطار استعدادا لإجلاء الرعايا الأجانب, في الوقت الذي قامت فيه طائرات حربية فرنسية من طراز ميراج بمهام استطلاعية لتأمين مهمتها. ويبدو أن الأمر لا يخرج في حقيقته عن قيام فرنسا بإعادة النظر في تورطها في تشاد الذي اعترف به ساركوزي في اجتماعات الكبار في مدريد في ديسمبر الماضي, خاصة بعد ما أعلنت قوات المعارضة التشادية الحرب علي القوات الفرنسية المرابضة في شرق تشاد عقب معارك نوفمبر الماضي التي تورطت فيها فرنسا وفضحتها صور وتقارير مراسلين أجانب. ويبدو موقف فرنسا المغاير كرد فعل علي الحرج الدبلوماسي الذي تسبب فيه الرئيس التشادي بإثارة حفيظة مواطنيه في نهاية أكتوبر الماضي مع كشف ملابسات قيام مؤسسة أرك دو زوري الفرنسية بجمع103 أطفال تشاديين بدعوي أنهم من أيتام دارفور, حيث هدد ديبي بالحساب العسير للمتورطين أيا كانت جنسيتهم, ليتحول الأمر برمته إلي قضية رأي عام استغلها النظام التشادي للضغط علي فرنسا التي اضطرت لمساعدته في صد هجوم لقوات المعارضة علي شرق البلاد, علاوة علي تقليم أظافر هيئات المعونات الدولية التي لا تتواني في الوقت نفسه, عن انتقاد انتهاكات نظام ديبي الصارخة لحقوق الإنسان, خاصة فيما يتعلق بمسائل الأسري من جنود المعارضة ومعتقلي السياسة والرأي, وهي الانتقادات التي يرفضها النظام التشادي, ولا يجد حرجا في قبول المساعدات الدولية تطبيقا لمبدأ حسنة وأنا سيدك, إذ بدون المعونات الدورية التي تقدمها تلك الهيئات الدولية للتشاديين في شرق البلاد وجنوبها لم يكن هؤلاء ليجدون ما يقيمون به أودهم في ظل عدم استقرار نتيجة الخلافات القبلية. واللافت للنظر أن فرنسا لن تجد غضاضة أو أزمة في التعامل مع أي من الحكومة أو الحركات المعارضة التي يتخذ بعض زعمائها من باريس مقرا له, إذ تربطها بالجميع علاقات طيبة تؤكد رغبة فرنسا الواضحة في البقاء في تشاد بغض النظر عمن يحكمها, وهو ما يفسر غض فرنسا وحليفاتها الطرف عما يقوم به نظام ديبي من تصفيات جسدية واستئثار بالقرار بالتعامل مع تشاد باعتبارها امتدادا للقبيلة وهو ما يتنافي مع أبسط قواعد الدولة التي من المفترض أنها تتبع دستورا ونظما واتفاقات دولية تنظم الكثير من المسائل الشائكة. وساطات بلا حدود لا يكف التشاديون وغيرهم من التعجب من ذلك العدد الذي يصعب رصده من الاجتماعات والقمم التي شهدت وساطات وتوقيع اتفاقيات لوقف حالة الصراع والحرب بين حكومتهم وبين السودان, وكذلك جماعات المعارضة المسلحة المتعددة التي يحرص قادتها علي حضور تلك اللقاءات التي يصاحبها في الغالب تهليل إعلامي تحت رعاية دول إفريقية وآسيوية أيضا تأتي علي رأسها ليبيا, والسعودية, ومصر, بالإضافة إلي هيئات دولية منها الاتحاد الإفريقي الذي اختار في ختام قمته الأخيرة في أديس أبابا قبل أيام كلا من رئيسي ليبيا والجابون للقيام بدور الوساطة في الأزمة التشادية الأخيرة في استمرار لمسلسل الوساطات والاتفاقيات التي تموت فور جفاف حبرها لا لشئ سوي عناد المعارضين التشاديين الذين يرفعون شعار ليس لدينا ما نخسره, فإما سلطة وثروة للاتباع ورفاق السلاح والقبيلة وإما موت يعتقدونه شهادة في سبيل العدل. وقد ضرب الرئيس الليبي معمر القذافي رقما قياسيا في إجراء اتصالات وتنظيم لقاءات هدفها عقد جلسات صلح بين السودان والفرقاء التشاديين الذين يحرصون في كل مرة علي الحضور والتوقيع وتبادل الأحضان أمام الكاميرات ثم يمضي كل منهم إلي حال سبيله وكأن شيئا لم يكن ويبدو أن ذلك كان أحد الأسباب التي دعت الزعيم الليبي لإعلان غضبه من إفريقيا وتهديده بسحب استثماراته من القارة التي لا تستطيع تجاوز أزماتها. أصدقاء الأمس اللافت للنظر أن النظام السوداني الذي يتبادل والنظام التشادي الاتهامات بشأن دعم جماعات المعارضة المسلحة علي جانبي الحدود, هو النظام نفسه الذي ساعد قبل17 عاما إدريس ديبي ابن قبيلة الزغاوة ذات الجذور الإفريقية للانقلاب علي حبري سابقه, ويري ديبي أن نظام السودان العربي يدعم الميليشيات العربية المسلحة الجنجويد التي تقوم بالاعتداء علي القبائل الإفريقية في غرب السودان, وطرد أبنائها إلي شرق تشاد, في الوقت الذي تتهم فيه السودان تشاد بدعم عصابات القبائل الإفريقية التي تعمل علي طرد أبناء القبائل العربية من شرق تشاد إلي السودان ردا علي الهجمات المنطلقة من دارفور غرب السودان. ولعل نظام ديبي في اتهامه للسودان بدعم المعارضين التشاديين يتناسي الغضب الذي يسري في الداخل الذي أسهم في انشقاق الكثيرين عليه, خاصة من القبائل التي تعرضت لظلم الزغاوة الذين يمسكون بمقاليد البلاد, كما هو الحال في دار تما ودار وداي, حيث يشكل أبناؤهما النسبة الغالبة في قوات المعارضة التي ضاقت بفساد بطانة ديبي التي أمعنت في استغلال البلاد لصالحها متناسية مئات الآلاف الذين يعيشون في شرق تشاد وجنوبها دون حد الكفاف في انتظار ما تجود به هيئات المعونة الدولية. وبعيدا عن تحالفات خارجية متقلبة وصراع داخلي تحركها مشاعر قبلية أو بقاء رئيس دولة أو رحيله, فإن الأزمة التشادية الحقيقية تتمثل في ضبابية الرؤية لدي الفرقاء من رئيس منتخب أو زعماء جماعات المعارضة المسلحة الذين لا يختفلون كثيرا فيما بينهم من حيث عدم امتلاك حلم قومي أو خطة سياسية تدعمها رغبة حقيقية لتنمية البلاد اقتصاديا أو سياسيا في ضوء خلافات قبلية تحركها مصالح شخصية ورغبات فردية في زعامة ووجاهة اجتماعية ومكاسب مادية لا ناقة فيها للبسطاء الفقراء ولا جمل إذ بالنسبة لهم تعددت الأسباب والموت واحد.