في غمرة التقارير الإخبارية المتواترة عن تقدم وتراجع هجمات المتمردين، وعن تلك الشوارع الدامية التي يبدو من الواضح أنها عادت الآن إلي طبيعتها وسابق عهدها، وعن انتشار الاتهامات بتلقي المتمردين دعماً من الحكومة السودانية المجاورة، يظل مزعزعاً ومجهولاً مصير هذه الدولة النفطية الصغيرة، الواقعة شمالي إفريقيا الوسطي. وكما حدثتنا معت باراني التي كانت منشغلة بغسل الخضار من مياه النهر الذي يشق العاصمة التشادية المتربة الغبراء، فقد أصبح العنف وتبادل النار والرصاص، جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية في ذلك البلد، سواء عاد المتمردون إلي شن هجوم جديد أم لم يفعلوا. "فنحن لم نعد ندري متي سينتهي هذا" علي حد قولها. والمؤكد أن العوامل وراء حالة عدم الاستقرار هذه في تشاد، إنما تتلخص في تنامي الثروة النفطية، إلي جانب تعقيد وتشابك العلاقات الإثنية القبلية المتجاوزة للحدود السياسية والجغرافية خاصة التداخل العرقي مع القبائل السودانية في إقليم دارفور إضافة إلي طموح الرؤساء الأفارقة للبقاء في مناصبهم مدة أطول مما يقررها الدستور. وحسب آراء الخبراء، فإن تشاد تقدم نموذجاً مصغراً، لمعظم العوامل المؤدية للنزاعات في القارة الإفريقية ككل. من هؤلاء يقول بيتر كجوانجا، من "مجموعة الأزمات الدولية" في بريتوريا، إن تشاد تمثل الحالة الأسوأ علي الإطلاق في القارة الإفريقية كلها. فرغم التقدم الذي يتم احرازه في تسوية النزاعات، وفي المجال الاقتصادي أيضاً، علي مستوي القارة كلها، إلا أن تشاد ظلت تراوح مكانها مؤكدة كم هو طويل الطريق إلي السلام الإفريقي! فمنذ استقلالها عام 1960، شهدت تشاد سلسلة من الاضطرابات العنيفة، كان آخرها الهجوم الذي تعرضت له نجامينا يوم الثالث عشر من إبريل الجاري. وهاهي الحكومة تزعم اليوم أنها تمكنت من سحق التمرد وإلحاق هزيمة ماحقة به. غير أن الدبلوماسيين المقيمين في تشاد، والعارفين بطبيعة التمرد وتاريخ العنف فيها، يرجحون عودة التمرد إلي شن هجمات جديدة، بعد إعادة ترتيب صفوفه إثر الهجوم الفاشل الأخير. كما أنه ليس في مقدور أحد أن يحدد موقع تواجد هؤلاء المتمردين، بما في ذلك القوة الفرنسية المتواجدة في تشاد. وآخر المعلومات التي حصلنا عليها كانت من الجيش التشادي نفسه، الذي أكد وجود مجموعة صغيرة من المتمردين في المنطقة، مقللاً بذلك من حجمها وأهميتها. ذلك هو ما أكده الكولونيل فينسنت دولارد قائد القوات الفرنسية في مدينة أبشي الواقعة شرقي البلاد، معترفاً في الوقت ذاته بأنه لم ير بعينه تلك القوات. وعلي أية حال تظل الشكوك تخيم في الأفق التشادي، بينما تشير أصابع اتهامات الخبراء، إلي دور سوداني في تلك الأحداث. ومن بين هؤلاء رتشارد كورنويل من معهد الدراسات الأمنية في بريتوريا، والذي يعلل شكوكه هذه بانتماء الرئيس التشادي إدريس ديبي لقبيلة الزغاوة التي تخوض حرباً ضد الحكومة السودانية منذ عام 2003، مع العلم أنها السبب الرئيسي وراء الهجوم الذي شنته الخرطوم علي القري في إقليم دارفور. وعلي الرغم من أن إدريس ديبي كان قد التزم الحياد إزاء النزاعات الجارية في إقليم دارفور، فإن هناك ما يشير إلي تزايد دعمه لأهله المتمردين هناك. وعلي طريقة رد الصاع صاعين، ربما مدت الحكومة السودانية يد العون للتمرد التشادي في المقابل. والشاهد أن تبادل مثل هذا الدعم، شائع جداً علي امتداد القارة الإفريقية كلها. ومن ذلك الدعم الذي تقدمه حكومة الخرطوم للمتمردين الأوغنديين، مقابل الدعم الذي قدمته أوغندا لمتمردي الجنوب السوداني طوال السنوات الماضية. وبين هذا وذاك، ينكر إدريس ديبي وجود أي مشكلات داخلية في بلاده التي تعد خامس أفقر دولة في العالم، والتي لا تزال تفتقر إلي نظام تعليمي حكومي وإلي الخدمات الطبية الكافية، وتقتصر إمدادات الكهرباء علي عاصمتها فحسب. وينفي ديبي أي وجود لما يسمي ب"التمرد التشادي"، ناسباً الأحداث كلها إلي حكومة الخرطوم التي يتهمها بالعمل علي زعزعة الأوضاع في بلاده. وعلي أية حال، فإن أحد الدوافع الرئيسية لحرص المتمردين علي إسقاط الحكومة الحالية، هو تنامي الثروة النفطية، حيث تضخ حقول النفط التشادية ما يقدر بحوالي 160 ألف برميل يومياً، عبر خط أنابيب طوله 650 ميلاً إلي السواحل الكاميرونية. ورغم أن البنك الدولي اشترط تمويله لهذا المشروع، بخفض معدلات الفقر في تشاد، إلا أن حكومة إدريس ديبي غيرت تلك الشروط في ديسمبر من العام الماضي، مما دفع البنك إلي تجميد 124 مليون دولار من قيمة القروض المقررة لتشاد، عقاباً لها علي نقضها للاتفاق. ولذلك فمن الطبيعي أن تزداد عوامل التمرد الداخلي، تبعاً للتناقض القائم بين زيادة الثروات القومية، وتدني المستوي المعيشي للمواطنين. أبراهام ماكلوكلين وكلير سوريز مراسلا صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" من نجامينا وجوهانسبيرج "كريستيان ساينس مونيتور