المصرى اليوم 2/9/2008 فارق كبير بين رمضان، الذي ينطوي عليه النص الإسلامي المؤسس وهو القرآن الكريم وكذلك المستقي من السنة الصحيحة والعملية للنبي عليه الصلاة والسلام والقائم في أفعال الرعيل الأول أو «الجيل الفريد»، الذي تحلق حول الرسول الكريم - وبين رمضان الذي يحييه المسلمون الآن قولا وعملا. وهذا الفارق يتسع كل سنة عن الأخري، ويهرول في الاتجاه الذي سيجعل الأول غير الأخير، ليتحول الشهر الفضيل إلي مجموعة من الطقوس الدنيوية المادية البحتة، المغلفة بروحانيات سطحية، وتدبر عابر، وافتقاد للحكمة التي من أجلها فرض الله سبحانه وتعالي الصيام علي أمة محمد والأمم التي سبقتها. لقد فرض الله سبحانه وتعالي الصوم لا ليعذب الناس بالجوع والعطش والامتناع عن شهوات الجسد كافة، بل ليسمو بأرواحهم إلي أقصي حد، ويرتقي بمشاعرهم إلي أبعد غاية، ويدفع غنيهم إلي الإحساس بما عليه فقيرهم، وصحيحهم بما عليه مريضهم، وقويهم بما عليه ضعيفهم. وفرض الله الصوم ليجد الإنسان فرصة قوية لتدريب نفسه علي السلوك الصحيح، فيبني ما تهدم، ويعدل ما مال، ويقوّم ما اعوج وانكسر، فإن كان من سريعي الغضب، فليدرب نفسه علي الحلم والصبر والتريث، وإن كان من محبي النميمة والجدل فليعلم نفسه السكوت الحكيم الذي هو من ذهب، وليتعود علي أن يقول خيرا أو ليصمت، وإن كان من المنساقين بعمي وقلة بصيرة وراء غرائزهم فليقو ذاته في مواجهة شهواته، ولا يرهن نفسه بخدمة جسمه، وليدرك أنه بالنفس لا بالجسم إنسان، وأن قوة الإرادة أمضي عزماً من قوة العضلات. وفي كل الأحوال يعطينا رمضان فرصة لتجديد حياتنا، وليصبح كل واحد منا، إن صدقت عزيمته وسلمت نيته، إنسانا جديداً، لا يعبد الله علي حرف، ولا يكتفي من الدين بطقوسه وقشوره، بل يلج إلي جوهره الأصيل وحكمته العميقة، فيصبح بحق المسلم الذي تنطبق عليه الآية الكريمة «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله»، ويصير المسلم الذي يباهي به الرسول الأمم يوم القيامة، وليس المسلم الذي لا يمثل سوي قطرة ضائعة في «غثاء السيل»، فتتداعي الأمم عليه كما تتداعي الأكلة إلي قصعتها، ليس من قلة ولا عوز وإنما من عشوائية ورعونة وتفرق وانحياز إلي الشكليات الدينية، وهجر المضامين والجواهر العامرة بالروحانيات والقيم النبيلة، التي تسمو بالأخلاق وترتقي بالهمم. لكن ما يجري في الواقع شيء آخر، فأغلب المسلمين المعاصرين حولوا رمضان إلي شهر دعة وراحة وكسل، ونسوا أن الصحابة خاضوا معركة «بدر» في رمضان، وأن صلاح الدين قد هزم الصليبيين في رمضان، وأن العرب قد هزموا إسرائيل في رمضان، وهذا لا يعني أن رمضان شهر حرب، فالإسلام لا يجيز في نصه القرآني إلا الحرب العادلة التي تتم دفاعا عن العقيدة والأرض والعرض وإعلاء الحق وإزهاق الباطل، لكنه يعني أن الصيام لا يحول بين المسلم الحق وأن يفعل أقصي ما يستطيع من أجل إعمار الأرض ودفع الظلم. كما حول المسلمون رمضان إلي شهر تسلية تتسابق علي إشباعها شاشات الفضائيات، المتخمة بالمسلسلات والأفلام والمسرحيات وبرامج المسابقات التافهة واللقاءات السطحية مع أهل الفن، إلي الدرجة التي أصبح عندها الممثلون والمخرجون والمنتجون من العلامات المميزة لهذا الشهر، أكثر من علاماته الأصيلة التي شرع الله من أجلها الصوم. وبات أغلب المسلمين يستهلكون في رمضان أضعاف أضعاف ما يأتون عليه في الشهور التي تسبقه وتليه، ليحولوه من شهر الصيام إلي شهر الطعام، مع أن الرسول الكريم كانت تكفيه بضع تمرات، وكان يقول «أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة». وصارت لرمضان صورتان عند النسبة الكاسحة من العوام، صورة في النهار، حيث الامتناع عن الأكل والشرب وخلافه من الخدمات والخامات التي تقدم للجسد، وصورة في الليل حيث يصبح الجسم سيدا، بخلاياه وغرائزه وأشواقه، وتتواري الروح في ركن من النسيان والإهمال. وهذا الفصام المزمن، الذي طالما رصدته أقلام وعدسات في أقصي الشرق والغرب، أضر بصورة المسلمين إلي حد كبير، وجعلهم عبئا علي دينهم الذي ينطوي علي قيم روحية سامية من دون أن يهمل الجسد «قل من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق»، ويجعل للآخرة الأولوية من دون أن يغفل الدنيا "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ". لكننا جرنا علي هذا التوازن، وخرجنا عن تلك الوسطية، فأعطينا للأدني أولوية علي الأعلي، ودسنا بأقدامنا المعاني الكبري التي من أجلها شرع الله الصوم. ولو أن المسلمين تدبروا القرآن الذي يقرأونه أكثر من مرة في الشهر الفضيل لعرفوا موضع أقدامهم، وعظمة دينهم الذي يقر بأن حامل رسالته بشر «خلت من قبله الرسل»، ولا يجعل واسطة بين الإنسان وربه، ويزن بمقياس دقيق بين المثال والواقع، وبين الضرورات والحاجيات والتحسينات. لقد بح صوت من ينادون كل عام في أمة محمد لتعود إلي رشدها وتتوب عن غيها، ولتتعامل مع رمضان بنزاهة وعدل يليق بما ورد عن الشهر الفضيل في محكم التنزيل، وفي ما كان يفعله الرسول وصحابته، لكن الناس آفتهم النسيان، وهذه ليست آفة المسلمين وحدهم، بل آفة البشرية جمعاء ومنها أتباع الديانات السماوية الثلاث، التي تحول أغلب أتباعها إلي آلة استهلاكية نهمة، فصار الإنسان سلعة، تباع وتشتري، مع أنه خليفة الله في أرضه، ومعجزته الكبري، وصارت الشقة واسعة بين تعاليم السماء وأفعال البشر، والفجور مقدم علي التقوي، فعاد الدين غريبا كما بدأ.