المصري اليوم: 20/7/2008 الفساد أصبح الآن ظاهرة عالمية تسري سمومه داخل الدول المتقدمة وينهش في بنيان الدول المتقدمة، وأضحي رصده ومحاربته وبحث سبل الوقاية منه هو الهدف الأهم لكل الأنظمة الرقابية في العالم، فالفساد - بحق - هو إبليس العصر، فهو لا يؤمن بالقاعدة التي تقول إن كل ما يولد يموت وما ينمو يهرم، فهو يتضخم بمجرد ولادته ويتكاثر قبل البلوغ. ولا نتجاوز الحقيقة كثيرًا إذا قلنا إن الفساد هو العدو الأول لنهضة الأمم فهو يقضي علي الحاضر ويدمر مستقبل الأجيال القادمة ويقتل الأخضر واليابس، ويهدم سمعة الدولة في الخارج ويؤثر علي علاقة المستثمر بجميع القطاعات التي يرغب في التعامل معها. ولن نظلم الدولة - ولن نجاملها - وندعي أن قضية الفساد نشأت نتيجة القصور الشديد في الاهتمام بها ومعالجتها بأساليب واقعية بحسبان أن القطاع الخاص تقع عليه المسؤولية في تفعيل وترويج هذه البضاعة، فهو دائمًا الطرف الأساسي والرئيسي في التخطيط لعملية السطو المسلح علي المال العام، وبدونه لن يظهر البطل الثاني أو السنيد علي شاشة العرض. ولا نحب أن نزعج القارئ بالحديث عن الفساد الناتج عن عدم الانضباط في الحضور والانصراف وتناول الموظف الطعام أثناء العمل ومقابلة كل من هب ودب وقراءة الصحف وإجراء التليفونات الخاصة، وإنما سنتناول الفساد الناتج عن الرشوة والإهمال وسنعرض من خلال السطور التالية المناظرة الجدلية التي دارت بين الموظف المرتشي والموظف المهمل، بهدف الاقتراب من فكرهما والفلسفة التي يؤمنان بها. المرتشي: الرشوة جريمة معقدة تستلزم السرية التامة في إتمام مراسمها وتقنين أوضاعها، ويتم سحل الجاني أمام العامة عقب ضبطها، وتوقع علي مرتكبها عقوبة التجريس فيتم تشويه سمعته وسمعة أسرته، وأنت أيها المهمل ترتكب جريمتك في هدوء وسكينة ولا يستطيع أي جهاز رقابي تعقبك أو متابعتك، ولا يملك الأمن سلطة القبض عليك. المهمل: حديثك هذا يناقض الحقيقة والدليل علي ذلك أن قانون العقوبات يعاقب كل من تسبب بخطئه في إلحاق ضرر جسيم بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل بها، نتيجة إهماله في أداء وظيفته بالحبس والغرامة ويتم تشديد العقوبة إذا ترتب علي الجريمة إضرار بمركز البلاد الاقتصادي أو بمصلحة قومية لها. المرتشي: من وجهة نظري هذه العقوبة ضعيفة ولا تتناسب مع ما قد يحدث للوظائف ولكيان الدولة من إهمالك الذي قد يؤدي إلي ضياع مرافق عامة بأكملها في لحظات وإزهاق أرواح الأبرياء. المهمل: تتحدث وكأنك الأمين العام علي مصالح الدولة والمتحدث الرسمي باسم الشرف والأمانة رغم أن الإتجار بالوظيفة واستغلالها يؤدي إلي زعزعة ثقة الشعب في القائمين علي إدارة مرافق الدولة وانهيار لكل القيم والمبادئ التي يجب أن تسود المجتمع، فأنت لا تعرف الفرق بين الحلال والحرام وتأكل الطعام الرخيص وتشتهي الخبيث. المرتشي: بدون مجاملة أنا أقل خطورة منك وأقل تأثيرًا علي كيان المرافق العامة ورغم ذلك تستطيع - بقليل من التفكير - الدفاع عن جريمتك بسهولة، فتدعي أنك لم تكن تقصد ولم يصل لعلمك القرارات التي تحدد اختصاصاتك وتُظهر حسن نيتك، وتوجه الاتهام إلي الزملاء والرؤساء، وفي النهاية تكون العقوبة لفت نظر. المهمل: أنت أكثر مني مالاً وعددًا وأنا مسكين فصلاح حالي يتطلب فقط القليل من المتابعة والتوجيه أما أنت فحالك لن يتغير، فلن تستطيع أداء أي عمل إلا بمقابل غير شرعي ولن تسعد نفسك إلا بالأوراق غير الشرعية التي توضع في بنك شهواتك. وفي نهاية المطاف أقول - بهدوء - إن الفساد ينشأ نتيجة جهل المتعامل مع الجهات الرسمية بالقانون والقرارات المنظمة لعملها وعدم علمه بحقوقه وواجباته التي قدرها له القانون علاوة علي الرغبة الشديدة التي تجتاح أصحاب الطلبات في إنهاء مصالحهم في أسرع وقت دون التريث في بحث طلباتهم، وعدم وجود رقابة داخلية ذاتية حقيقية لها سلطة ونفوذ داخل المرافق العامة تستطيع معالجة حالات التسيب والأهمال بطريقة موضوعية ورصد الحالات التي يتم اكتشافها وبحث أسباب وقوعها وغلق الأبواب الخلفية التي تؤدي إلي ذلك. فالرقابة الذاتية هي أقوي أنواع الرقابة لأنها تتم من الداخل وقريبة من موقع الحدث وتقارير مصادرها السرية أقرب إلي الواقع، فهي فقط تحتاج إلي المزيد والمزيد من الدعاية والاهتمام وحسن الاختيار.