الأهرام 3/6/2008 الحرب الأهلية الثقافية الدائرة في العالم العربي لم تأخذ حقها من الاهتمام والرصد ولم تدرج علي لائحة المعنيين بالمصالحة الوطنية (1) كما أن في لبنان موالاة وممانعة كذلك الحال في عالم الثقافة. وهذا التصنيف ليس مقصورا علي لبنان فقط, ولكنه حاصل في العالم العربي أيضا. وثمة خبرات تاريخية عديدة لدينا ولدي غيرنا انقسمت فيها النخب بين موالاة وممانعة. فالجنرال بيتان كان رمزا لموالاة النازيين الذين احتلوا فرنسا كما أن الجنرال ديجول كان رمزا للممانعة والمقاومة. وفي مصر كان نوبار باشا رئيس الوزراء رمزا لموالاة الإنجليز والاستعمار العالمي. أما محمد شريف باشا فقد كان رمزا للممانعة بين النخبة الحاكمة الوطنية. بالمثل كانت صحيفة المقطم منبرا للموالاة أما جريدة اللواء فقد قادت تيار المقاومة والممانعة وهذا ما فعله حزب الوفد في مواجهة الأحرار الدستوريين الذين انحازوا إلي الموالاة. أما خرائط هذا الزمان فرموز التيارين معروفون بين السياسيين والمثقفين. والسؤال المهم دائما هو: موالاة مع من وممانعة أو مقاومة ضد من. في حالتنا أعفتنا الإدارة الأمريكية من أن نبذل جهدا في هذا الصدد حين اعتبرت حلفاء الغرب والموالين له معتدلين ووصفت الرافضين للهيمنة الغربية والإملاءات الأمريكية بأنهم متطرفون. ومن ثم فقد أصبح معروفا أن عناصر الموالاة هي تلك التي انحازت إلي الموقف الغربي الأمريكي تحديدا وتبنت رؤيته لمشاريع المنطقة وقضاياها, والقضية الفلسطينية في مقدمتها. أما معسكر الممانعة فهو الذي اختار رفض الهيمنة الغربية وانحاز إلي المقاومة بمختلف صورها. إن شئت فقل إن الموقف من المقاومة هو الحد الفاصل ومعيار الانتماء إلي أي من المعسكرين بل إن المعركة الحقيقية بين الطرفين تدور حول فكرة المقاومة وتجلياتها. استنادا إلي ذلك فليس صحيحا أن الصراع الحقيقي في فلسطين هو بين حماس وفتح, ولكنه بين نهجين في التعاطي مع القضية الفلسطينية ومن ثم التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي. كما أن المشكلة في لبنان في جوهرها ليست بين قوي 14 آذار أو8 آذار وليس بين حزب الله وتيار المستقبل ولكنها بين مشروعي الموالاة للأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين وبين مقاومة ما يدبره هؤلاء للبنان وما يرمون من ورائه. بل أزعم أن سلاح حزب الله ليس المشكلة الحقيقية هناك لكنها في استخدام ذلك السلاح لأجل المقاومة. ولو أنه وظف لمصلحة هدف آخر لما أثيرت قضيته بدليل أن أحدا لا يتحدث عن سلاح القوات اللبنانية التي يقودها سمير جعجع ولا عن الميليشيا المسلحة التابعة لتيار المستقبل وحلفائه لأن ذلك السلاح لا شأن له بالمقاومة.( رغم محدودية ما يملكه هؤلاء إذا ما قورن بما هو متوافر لدي حزب الله). (2) حين تصبح المقاومة هي الموضوع الأساسي للصراع, حتي وإن كانت غير مسلحة كما في الحالة السورية فإن ذلك يدهش جيلنا الذي عاش مرحلة المد القومي( في الخمسينيات والستينيات) التي انتعشت فيها حركات التحرر الوطني, وكانت الرؤية فيها أكثر وضوحا والعدو أكثر تحديدا. ومن ثم لم تكن قضايا المصير محلا للاجتهاد واختلاف وجهات النظر. لذلك فإن مصر لم تعرف حكاية الموالاة والممانعة في السياسة الخارجية في تلك الفترة( الناصرية). وحين استقام الأمر في مصر انضبط الإيقاع في العالم العربي, باستثناء جيوب صغيرة كان حلف بغداد من تجلياتها, إذ ظل الموقف من الهيمنة الغربية محل إجماع وطني عام وكذلك الموقف من المقاومة الفلسطينية لكن الأمر اختلف بصورة جذرية في المرحلة الساداتية التي ذاع خلالها الشعار الذي ادعي أن99% من الأوراق بيد الولاياتالمتحدة. هو ما أحدث انقلابا في سياسة مصر الخارجية, كان له صداه في العالم العربي بطبيعة الحال. وكانت تلك المحطة الأولي في طريق الالتباس الذي صور للبعض أن موالاة الإدارة الأمريكية قدر لا فكاك منه الأمر الذي أصاب البوصلة العربية بخلل شديد تداخلت في ظله الخطوط بحيث لم يعد الإجماع منعقدا علي رؤية استراتيجية واحدة حتي لم يعد يعرف علي وجه اليقين من يكون العدو ومن هو الصديق( البعض أصبح يتحدث مثلا عن أن إيران هي العدو وليست إسرائيل). وإذ اختلفت المواقف في هذا الصدد فإن العديد من قضايا المصير أصبح محلا للاجتهاد. حتي الولاء للسياسة الأمريكية والاستقواء بها بل وحتي التطبيع المجاني مع إسرائيل أصبح وجهة نظر. أكثر من ذلك فإن فكرة المقاومة ذاتها لم تسلم من التشويه والتجريح وتحولت من راية للعزة رفرفت في فضاء الأمة يوما ما إلي سابقة تدرج أصحابها في قوائم المشتبهين والممنوعين من الصرف السياسي. إلي أن انتهي بنا الحال إلي وضع صارت فيه الموالاة قاعدة, والممانعة استثناء. ولم يعد ذلك الخلل في الموازين والرؤي مقصورا علي السياسيين وحدهم, ولكنه جر وراءه المثقفين أيضا. (3) قراءة المشهد اللبناني جسدت ذلك الخلل الأخير بامتياز. فرغم أن معركة السياسيين هدأت بصورة نسبية بعد اتفاق الدوحة, فإن معركة المثقفين مازالت مستمرة. وهي أوضح ما تكون في وسائل الإعلام, التي لم يتوقف فيها أهل الموالاة عن التحريض والدس وقلب الحقائق. وبعضها لم يتورع عن استخدام أساليب غير مشروعة بعضها يهدر أدب الحوار ولغته, والبعض الآخر عمد إلي التزييف والتدليس.لن أتحدث عن الفريق الأول لأن مستوي التعبير بين أفراده مما ينفر صاحب أي قلم يحترم نفسه ومهنته من أن يتصدي له. لكن بين أيدينا نصا نموذجيا للصنف الثاني. وما أغراني بالتوقف عنده ليس فقط أنه يجسد منهج التزييف والتدليس في رواية الوقائع, وإنما أيضا أنه كان بمثابة تعقيب علي مقال سبق أن نشرته في هذا المكان قبل أسبوعين تحت عنوان محاولة فهم ما جري في بيروت. في ذكر الوقائع يتحدث النص عن أن لبنان دولة ديمقراطية فيها ما يكفي لتمكين مختلف التيارات والقوي أن تشارك في البرلمان والحكومة. لكن حزب الله لم يجد غضاضة في أن تكون له وحده قوة مسلحة, خارج سلطة الدولة الشرعية وأن يقيم دولة خارج الدولة. كما سمح لنفسه بأن يقوم بانقلابه العسكري ويغزو بيروت لأن مجلس الوزراء اتخذ قرارا لم يعجبه. وفي أثناء الغزو قام الحزب بحرق مؤسسات الراي والعمل الأهلي. التدليس في الرواية يكمن فيها حفل به النص من أغاليط جسيمة يتعذر افتراض البراءة فيها. فالكلام عن الديمقراطية في لبنان محض هراء لأن النظام هناك قائم علي التوافق وليس الديمقراطية وبمقتضي التوافق يجب أن يكون رئيس الدولة مارونيا ورئيس الوزراء سنيا ورئيس البرلمان شيعيا وهذا وضع لا علاقة له بالديمقراطية. وإذا كان لبنان يتمتع بدرجة عالية من الحرية, فلأن المجتمع هناك أقوي من السلطة. وحين قررت قوي الموالاة مقاطعة رئيس الجمهورية إميل لحود طوال سنتين, لم يقل أحد أن ذلك عدوان علي الشرعية, وإنما قبل الجميع بذلك, لبنانيا وإقليميا ودوليا. والقول بأن حزب الله هو القوة المسلحة الوحيدة فيه مغالطة أخري, لأن كل القوي بل كل اللبنانيين مسلحون تشهد بذلك حرب الأربعة عشر عاما الحاضرة في الأذهان. وحكاية الانقلاب العسكري وغزو بيروت لأن مجلس الوزراء اتخذ قرارا لم يعجب حزب الله فيه مغالطة فاضحة أيضا. لأن القرار الذي لم يعجب حزب الله كان في حقيقته إعلان حرب عليه, تمثل في محاولة السيطرة علي شبكته الأمنية في الوقت الذي تسربت فيه الأخبار عن إعداد ميليشيا المستقبل للدخول في مواجهة مسلحة مع حزب الله وإعداد600 عنصر تم تدريبهم في الخارج لهذا الغرض. إضافة إلي التحركات البحرية الأمريكية في البحر الأبيض. أعني أن السياق دفع الحزب إلي التحرك لإجهاض ما يدبر ضده. وليس صحيحا أنه قام بانقلاب لأننا نعرف أن السلطة ظلت كما هي كما نعلم أنه استولي علي مقار الأطراف التي كانت تعتزم الانقضاض عليه ولم يبق فيها وإنما سلمها إلي الجيش. فبأي منطق إذن يقال إن ذلك كان انقلابا وغزوا لبيروت. أما حكاية إحراق حزب الله المؤسسات المذكورة فهي كذبة لا دليل علي صحتها لأن الفاعلين مجهولون حتي الآن وأكثر الاصابع تشير إلي مسئولية عناصر الحزب القومي السوري وهناك صور تؤيد ذلك وتظهر أعلام الحزب التي تتوسطها علامة الزوبعة علي أبنية تلك المؤسسات. (4) هجاء المقاومة لم يكن الهدف الوحيد, وإنما استخدمه خطاب الموالاة كمنصة لإطلاق الاتهامات التي تستهدف تشويه الذين يدافعون عنها حتي يبدو وكأنه لا خير في المقاومة ولا ثقة فيمن ينحازون إليها وهو ما نستطيع أن نفهم دوافعه إذا تذكرنا أن التصنيف الأمريكي الذي يستلهمه فريق الموالاة, يعتبر أن هؤلاء وهؤلاء هم من عناصر محور الشر الشهير. هذه الاتهامات تنبني علي منطق خلاصته أنه إذا كان حزب الله شريرا إلي الحد الذي تم تصويره, فلابد أن يكون المتضامنون معه والمتفهمون لموقفه أشرارا أيضا. ولأنه قام بانقلاب في بيروت واستخدم السلاح في ذلك فلابد أن يكون هؤلاء أيضا انقلابيون ويتوقع منهم بدورهم أن يلجأوا إلي استخدام السلاح وتنظيم الاعتصامات ونصب الخيام في الميادين. هذا التبسيط الساذج الذي ينطلق من الإصرارعلي التشويه والكيد, ويلغي كل عناصر الخصوصية في الوضع اللبناني, وفي الوقت نفسه يعمد إلي تصوير مؤيدي المقاومة باعتبارهم أصوليين انتهازيين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا أمان لهم يصب في مجري وحيد هو: الحط من شأن المقاومة وكل الذين يقفون في صفها. وإذا صح ذلك فمن حقنا أن نتساءل عن الطرف المستفيد من هذه الغارة وعن مصير العالم العربي إذا ما استمرت محاولات إشعال الحرب الأهلية بين المثقفين, التي تستهدف الانقضاض علي معاقل الصمود والممانعة, وعن تقويم ذلك الموقف بمعايير المصلحة الوطنية.