يتزامن عرض فيلمين وثائقيين في دور السينما الأميركية حاليا يتعلقان بتجاوزات العسكريين الأميركيين في التعامل مع السجناء والأسرى الأجانب. أول هذين الفيلمين هو فيلم ''تاكسي إلى الجانب المظلم'' الذي يوثق فيه المخرج أليكس جيبني أساليب التعذيب التي يمارسها العسكريون الأميركيون في سجن جوانتانامو وفي سجون العراق وأفغانستان. وقد فاز هذا الفيلم بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي هذا العام. والفيلم الثاني هو ''إجراء عادي'' )Standard Operating Procedure(الذي يركّز مخرجه إيرول موريس على توثيق ممارسات التعذيب في سجن أبو غريب، كما يطرح تساؤلات حول ما آلت إليه التحقيقات المتعلقة بهذه القضية. وقد فاز هذا الفيلم بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وأصبح أول فيلم وثائقي يرشح لجائزة الدب الذهبي في تاريخ هذا المهرجان، منافسا بذلك روائع الأفلام الروائية. كما عرض هذا الفيلم في مهرجان ترايبيكا في نيويورك. فيلم ''إجراء عادي'' هو ثامن فيلم وثائقي يقدمه المخرج إيرول موريس وأول أفلامه الوثائقية منذ فيلمه المتميز ''ضباب الحرب'' الحائز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي. وقد تمكن المخرج إيرول موريس من إجراء مقابلات صريحة مع خمسة من العسكريين الأميركيين السبعة الذين أدينوا ودخلوا السجن بتهم ممارسة أعمال التعذيب ضد السجناء في سجن أبو غريب. ويلاحظ المخرج أن أعلى هؤلاء المدانين رتبة هو عسكري برتبة رقيب، وأن معظمهم من الجنود وأكثر من نصفهم من النساء. ولعل أشهرهن الجندية ليندي إنجلاند التي شملت ممارساتها ربط سجين عراقي بطوق في رقبته وقيادته كالكلب. وقد أقرت أثناء محاكمتها بأنها فعلت ذلك بناء على أمر من رئيسها المباشر وعشيقها الجندي تشارلز جرينر، الذي أدين ويقضي حاليا حكما بالسجن لمدة عشر سنوات، ولم يسمح له بالاشتراك في المقابلات التي يتضمنها فيلم ''إجراء عادي''. يشار إلى أن الجندية ليندي إنجلاند حملت من عشيقها الجندي تشارلز جرينر أثناء عملهما في سجن أبو غريب. لعل من المدهش أن أكثر المقابلات إثارة في فيلم ''إجراء عادي'' أجريت مع مديرة السجون البريجادير جنرال جانيس كاربنسكي التي تحدثت بغضب وعصبية وأنحت باللائمة على الجنرال جيفري ميلر الذي ادعت أنه أبلغ من قبل وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيد بأن يطبق في سجن أبو غريب الممارسات التي استخدمها في سجن جوانتانامو. وقد عوقبت الجنرال كاربنسكي بتخفيض رتبتها العسكرية، إلا أنها لم تحكم بالسجن. يطرح المخرج إيرول موريس في فيلم ''إجراء عادي'' السؤال التالي: هل يمكن لصورة أن تغير العالم؟ ويرى أن الصور التي التقطها عسكريون أميركيون في سجن أبو غريب غيرت الحرب في العراق كما غيرت صورة أميركا نفسها. إلا أنه يرى أن الوضع ما زال محاطا بالغموض. ويتساءل هل أن الصور المشينة لسجن أبو غريب تقدم أدلة على وجود إساءة منظمة يمارسها العسكريون الأميركيون، أم أن تلك الصور توثق سلوكا شاذا لفئة صغيرة لا تمثل أكثرية العسكريين الأميركيين؟ يؤكد المخرج إيرول موريس على تحليل وتمحيص السياق الذي التقطت فيه تلك الصور. فلماذا تم التقاطها؟ وما الذي كان يحدث خارج إطار كل صورة؟ للتعرف على الأجوبة تحدث المخرج مباشرة مع الجنود الذين قاموا بالتقاط تلك الصور وأولئك الذين ظهروا فيها. من هم هؤلاء الناس، وما الذي كانوا يفكرون فيه؟ أمضى المخرج إيرول موريس أكثر من عامين في إجراء التحقيقات وسجل خلالها أكثر من 5,1 مليون كلمة وجمع آلاف التقارير غير المصححة أو المنقحة ومئات الصور. إلا أنه خلص في فيلمه إلى أن قصة أبو غريب ما زالت محاطة بما يصفه ب ''الغموض الأخلاقي''، مع أن ما حدث في أبو غريب ظاهر للعيان. يقول المخرج إيرول موريس إن صور أبو غريب تجمع بين الكشف عن الحقائق والتستر عليها في آن واحد. فهي تعدّ كشفا لأن الصور تقدم لمحة عن رعب أبو غريب، وتعدّ تسترا لأنها أقنعت الصحفيين والقراء بأنهم رأوا كل شيء، ولا حاجة لهم إلى مزيد من البحث. ويشير المخرج إلى أن التستر الذي حدث في أبو غريب يشمل آلاف السجناء العراقيين ومئات الجنود الأميركيين. ويقول إن السؤال المهم هو الذي لم تتم الإجابة عليه وهو: بعد مضي أربع سنوات على هذه الفضيحة، كيف يمكن للقيم الأميركية أن تنتهك بهذه الطريقة بحيث يحدث ما حدث في أبو غريب، هذا بالإضافة إلى التستر على ما حدث؟ يقدّم فيلم ''إجراء عادي'' مثالا على العمل السينمائي المتكامل للمخرج المؤلف الذي تعبر كل لقطة من لقطات الفيلم عن رؤيته السينمائية، كما تعبر عن مشاعره وأحاسيسه. وتظهر مقدرة المخرج إيرول موريس في براعة استخدام التصوير على يد المصورين روبرت تشابيل وروبرت ريتشاردسون والموسيقى التصويرية للموسيقار داني إيلفمان واستخدام العديد من الأدوات التسجيلية المبتكرة كالرسوم المتحركة للتعبير عن رسالته السينمائية. يحتل المخرج إيرول موريس مكانة خاصة في عالم الإخراج السينمائي. ومما قاله عميد نقاد السينما الأميركيين روجر إيبيرت في مجال تقييمه ''بعد عشرين سنة قضيتها في استعراض الأفلام، لم أجد مخرجا سينمائيا يثير اهتمامي أكثر من إيرول موريس الذي يذكّرني بحركات الساحر، وهو لا يقل مكانة كمخرج عن هيتشكوك أو فيلليني''