عندما سقطت بغداد في التاسع من ابريل عام 2003، استبشر الذين راهنوا على الغزو الأنجلو أميركي خيرا، ونثروا في ربوع أرض الرافدين الوعود التي صدقها حتى الذين كانوا يشككون في نوايا الاميركيين الذين اجتاحوا العراق تحت زعم انتشاله من الدكتاتورية ونزع أسلحة الدمار الشامل من أراضيه. وهاهي السنون تمر، ولم يجن الشعب العراقي سوى الفقر والبطالة وانعدام الخدمات والمرافق الى جانب آفة العنف التي تحصد أرواح الأبرياء في مشهد دام كل يوم. اكتشف أبناء الرافدين أن ما حصلوا عليه من وعود وتباشير ما هو الا وهم وسراب. ولنترك أول من رأس حكومة عراقية بعد سقوط بغداد وهو إياد علاوي ليقول الآن كلمة الحق التي بات يعرفها الجميع. فقد اعترف صراحة ومن دون لف أو دوران، بأن مستوى الأوضاع في العراق أصبح تحت الصفر وليس صفرا، وان العراق غير مؤهل لأن يستقر أمنيا(!!). علاوي الذي يقول ذلك، كان متفائلا بالمستقبل عندما تولى الحكومة المؤقتة في العراق بقرار من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. وها هو الآن تسيطر عليه حالة من التشاؤم الحاد وهو يقول ان العراق دخل السنة السادسة للحرب ولا يزال في تراجع ويواجه تحديات أمنية واقتصادية. ولنترك أيضا الجهات الدولية المحايدة تقول كلمتها في المشهد العراقي المأساوي الدامي:تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن الوضع الإنساني في أجزاء كثيرة من العراق هو الأسوأ في العالم. وان الملايين من العراقيين محرومون من المياه النظيفة ولا تتوافر لهم الخدمات الطبية، حيث تخلو المستشفيات من الأسرة والأدوية والكوادر الطبية. كما تضطر بعض الأسر إلى أنفاق ثلث دخولها الشهرية (معدلها 150 دولارا) على شراء مياه الشرب النظيفة. وجاء في التقرير ان اكثر من 2200 طبيبا وممرضة قتلوا و250 اختطفوا منذ خمس سنوات. كما ان 20 ألفا من الكوادر الطبية (من مجموع 34 ألفا) قد اضطروا الى مغادرة البلاد منذ الغزو الأميركي. ومن جانبها، قالت منظمة العفو الدولية ( أمنيستي) في تقرير لها إن العراق اصبح واحدا من اخطر دول العالم، فحكم القانون والتعافي الاقتصادي اصبحا حلمين بعيدي المنال بالنسبة للغالبية العظمى من العراقيين الذين يعانون من الفقر وشح الغذاء والماء والبطالة. ويقول التقرير إن اربعة من كل عشرة عراقيين لا يتقاضون اكثر من دولار واحد في اليوم (وهو المعيار الذي تعتمده الاممالمتحدة لقياس الفقر المدقع)، بينما تقف انظمة التعليم والرعاية الصحية في البلاد على حافة الانهيار، وتتعرض النسوة والفتيات لاعتداءات المتطرفين. هذا يفرض التساؤل التالي: ما هذا الفقر والبطالة التي تنخر في المجتمع العراقي، وأين ذهبت أموال العراق التي تتدفق عليه يوميا من عائدات نفطية سنوية قدرت في نهاية العام الماضي بقرابة 40 مليارر دولار بل ومن المتوقع تزايدها في ظل ارتفاع أسعار البترول؟ أين مشاريع اعمار العراق التي ملأ المتحدثون عنها ضجيجا في كل مكان والتي خصص لها قرابة 115 مليار دولار كفيلة بتحقيق نهضة شاملة في ربوع أرض الرافدين؟ لقد كشفت دراسة لمؤسسة استشارية دولية ( آي اتش اس ) وهي رائدة في مجال الطاقة، أن التقديرات الحالية لاحتياطيات النفط العراقي قد تتضاعف مع وجود مخزون هائل يفوق 100 مليار برميل تحت رمال صحراء المنطقة الغربية التي تقطنها أغلبية سنية، كانت حتى وقت قريب تعتبر نفسها محرومة من تلك الثروة المتركزة شمال وجنوب البلاد. وقّدرت الدراسة أن تحوّل تلك الكميات العراق إلى أحد أكبر مصدّري النفط في العالم. الاحتياطي النفطي الثابت في العراق الآن يبلغ 115 مليار برميل، وفي حال تم تأكيد الاحتياطي الجديد، فإن العراق سيتخطى إيران ليصبح صاحب ثاني أكبر ثروة نفطية خلف السعودية مع احتياطي لا يقل عن 215 مليار برميل. وينتج العراق ما يقرب من 38, 2 مليون برميل يوميا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، وهو أعلى معدل انتاج منذ الغزو الاميركي، لكنه اقل من معدلات الانتاج قبل الغزو. وفي ظل هذه الثروة النفطية الضخمة، ومنذ بداية الحرب في 2003، بلغ مجموع ما انفق على العراق حتى نهاية ديسمبر الماضي قرابة 95, 113 مليار دولار، منها 5, 47 مليار دولار من الولاياتالمتحدة و 6, 50 مليار دولار من موازنة العراق نفسه، والباقي من المجتمع الدولي. وفي ظل حاجة الشعب العراقي الملحة لخدمات المرافق من الماء والكهرباء والمجاري والصحة، فإن ما انفقته الحكومة العراقية على مشاريع الاعمار - كما يقول تقرير مكتب المحاسبة الأميركي - لا يتجاوز 22 % فقط من عائدات النفط المخصصة لاعادة الإعمار قبل عامين. ويشير تقرير مكتب المفتش الاميركي العام ستيوارت بوين جونير - الخاص لاعادة اعمار العراق - الى أن ايرادات النفط تشكل أكثر من 80% من ميزانية العراق للعام الحالي 2008 البالغة قيمتها 48 مليار دولار. كما سيحصل العراق على ما يقرب من 15 مليار دولار اضافية من ايرادات النفط لهذا العام . ويؤكد المسؤول الحكومي في مكتب المحاسبة الاميركي(جي ايه او) ديفيد ووكر أن دخل العراق من النفط هذا العام قد يصل إلى أكثر من 56 مليار دولار بسبب الارتفاع المستمر لأسعار النفط في الاسواق العالمية. أين اذن معالم الاعمار .. وأين ذهبت عائدات النفط ؟ لقد اعترف الاميركيون كما جاء في تقرير المفتش الاميركي بأن الفساد المستشري داخل دوائر الحكومية في العراق، قد يأكل هذه الايرادات. وحدد التقرير تهما مثل الرشوة وتهريب النفط والفساد، واعتبرها تمردا آخر يهدد التنمية في العراق. كما أشار الى إن التهريب والسرقة ربما يحرمان البلاد من نحو 15 مليون دولار من عائدات النفط يوميا. وإن ما يصل إلى 300 ألف برميل نفط تختفي يوميا في العراق. وكان الخبير الاقتصادي العراقي خالد الشمري قال إن الكميات المهربة من النفط العراقي أكبر من المعلن عنه إذ تتراوح بين 300 ألف برميل ونصف مليون برميل يوميا، مشيرا إلى أن عمليات التهريب تقوم بها ميليشيات عراقية منذ سقوط بغداد. ومن جانبه، أكد رئيس هيئة الادعاء العام العراقي القاضي غضنفر الجاسم أنه يجري التحقيق في 1066 قضية فساد مالي، مؤكدا أن مبالغ عمليات الفساد بلغت 80 مليار دولار . وهناك عراقيل- كما يقول - تواجه القضاء لمحاربة الفساد، داعيا الى العمل الجاد على استقلال القضاء وطالبا إلغاء أو وقف العمل بالمادة (136ب) من أصول المحاكمات الجزائية التي تمنع تقديم الموظف إلى القضاء إلا بموافقة الوزير الأمر الذي استخدمه الوزراء كسلاح ذي حدين . وبعد احتراق ثلاثة طوابق من بناية البنك المركزي العراقي في يناير الماضي، زادت الشكوك عن احتمال تعمد إشعال الحريق لإتلاف وثائق فساد خطيرة. اذ أبدى وقتها رئيس لجنة النزاهة في مجلس النواب العراقي صباح الساعدي قلقه من أن يكون الهدف من وراء الحريق هو اخفاء وثائق ومعلومات ذات صلة بعمليات فساد برغم إنقاذ 15 مليار دولار من الحريق ! ملف الفساد كما جاء تشير المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات في أحد تقاريرها عن البصرة أن الميليشيات فيها اخترقت أجهزة الأمن أن تهريب النفط في المدينة أدى إلى نشوء مافيا عملاقة شديدة التعقيد تضم المهربين والوسطاء والمتعاونين ضمن وزارة النفط نفسها. ولم يقتصر الأمر على نفط الجنوب، وإنما امتدت عمليات السرقة والتهريب إلى نفط الشمال. ففي كركوك على سبيل المثال تزعم التقارير التي اشارت اليها شبكة «سي ان ان» أن العشائر من القرى المجاورة تقوم بعملية تخريب لأنابيب النفط بإحداث ثقوب فيها وتسرق منها آلاف الأطنان يوميا، وأن المكلف بحماية الأنابيب هم من أهل القرى التي تمر بها. لقد مرت أكثر من خمس سنوات على سقوط بغداد، ومازال قرابة 30 مليون عراقي - يشكلون أحدث تعداد للبلاد- ينتظرون أن تحقق ثروات العراق النفطية نهضة شاملة تنتشلهم من براثن الفقر والبطالة التي تحاصر أرض الرافدين. البصرة .. رئة العراق رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وصف البصرة مؤخرا بأنها رئة العراق. ما قاله هو عين الحقيقة. مدينة البصرة التي تقع على سواحل الخليج هي بوابة العراق البحرية الوحيدة وهي مركز محافظة البصرة وثاني اكبر مدينة عراقية من حيث عدد السكان بعد العاصمة بغداد. ويبلغ عدد سكانها اكثر من 6, 2 مليون نسمة حسب احصاء عام 2003. كما أنها المنفذ البحري الوحيد للعراق الذي تخرج منه أغلب الصادرات العراقية من النفط ويتم عبره استيراد نسبة كبيرة من واردات العراق. وفيها ايضا اكبر حقول النفط العراقية مثل حقل الرميلة الذي يعتبر من اكبر واهم الحقول النفطية في العالم. كما تقع المدينة على شط العرب ملتقى نهري الفرات ودجلة عند القرنة شمالي البصرة. هذه المنطقة هي مصدر 90% من موارد الدولة في العراق، كما تمتلك نسبة 70 % من احتياطي هذا البلد من النفط. وهناك مصادر تشير الى أن حقول البصرة النفطية تشكل 80 في %من ثروة العراق النفطية. وسلمت القوات البريطانية الملف الامني في البصرة الى الحكومة العراقية في ديسمبر الماضي وتمركزت في قاعدة المطار الواقعة على بعد 25 كيلومترا من مدينة البصرة. وفي اعقاب ذلك طفا الى السطح صراع بين التيارات الشيعية المتصارعة للسيطرة على المحافظة ذات الموارد الكبيرة وخاصة النفط. هذه الفئات المتنافسة هي: المجلس الاعلى الاسلامي العراقي وميليشيا جيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر اضافة الى حزب شيعي أصغر وهو حزب الفضيلة الذي يسيطر على مناصب مهمة في قطاع النفط بالبصرة.