أفاد أحدث تقرير حكومي لأجهزة الاستخبارات الأميركية أمس ان ايران تبدو 'أقل تصميما على تطوير أسلحة نووية، وانها لا تملك هذه الاسلحة'، وهو استنتاج يدحض ما دأبت إدارة الرئيس بوش على تأكيده على مدى السنوات الماضية، بل يسفه ما كان يقوله الرئيس الأميركي نفسه باتهاماته لإيران. وربط مراقبون هذا 'الانقلاب' في الموقف الأميركي بتقارير لجنرالات عسكريين في بغداد خففوا فيها من اتهاماتهم ضد إيران في الأيام الأخيرة ووصفوا مواقفها بالإيجابية وب'التعاون' الأمني في العراق. كما ربط المراقبون بين هذا التقرير وبين حضور الرئيس الايراني لاجتماعات القمة الخليجية، لم يكن ليتم أصلا لو لم توافق واشنطن على حضوره. كما ربط المراقبون بين هذا التقرير ومحادثات الجولة الرابعة بين أميركا وإيران حول العراق، التي سبقتها زيارة عبدالعزيز الحكيم إلى واشنطن الأسبوع الماضي ولقاؤه بالرئيس بوش ودعوته إلى تعامل إيجابي مع إيران وتطمينه بأن الشيعة وإيران في العراق ضامنون إلى أقصى مدى المصالح الأميركية وعلى استعداد لتوقيع اتفاقات بهذا الشأن، واجتماعاته مع كبار المسؤولين هناك ومنهم وزيرة الخارجية واتفاقه مع الإدارة الأميركية على العلاقات المستقبلية بين الحكومة الشيعية والإدارة الأميركية وقد توافرت القناعة لدى إدارة الرئيس بوش ان هذا هو 'المخرج' الآمن لانتهاء ولايته القريب. وهناك اعتقاد أيضا ان ذلك يرتبط بصفقة 'أنابوليس' لحل القضية الفلسطينية. وفي ما يخص العراق، فإن القناعة لدى المراقبين تأكدت من ان 'مقايضة موقف ايجابي إيراني ازاء الوضع في العراق ولبنان وفلسطين لمصلحة واشنطن بموقف أميركي ايجابي حول النووي الايراني لمصلحة ايران قد تمت بنجاح'، رغم ما قيل عن استحالتها، وان أميركا اقرت بأن القوى الشيعية والكردية المتحالفة معها لضمان مستقبل العراق وبدعم ايراني هو أفضل خيار لها يمكن اللجوء اليه قبل انتهاء ولاية بوش بدلا من عدم احراز أي شيء، كما انه يضمن بقاء عسكريا أميركيا طويل الأمد، خصوصا في العراق وفي المنطقة عموما. واعتبرت واشنطن اتفاق الشراكة بين حكومة المالكي وإدارة بوش جزءا أساسيا من صفقة ضمان مستقبل العراق، ففي اطار هذه الصفقة التي تضمن المصالح الأميركية الإيرانية وحلفائها في العراق، بدأت أولى خطوات تعزيزها بتقرير الاستخبارات الأميركية، الذي خرج لمصلحة ايران مخففا عنها التهم السابقة مغيرا جميع الحسابات والمواقف العدائية ضدها. وهذا ما تطمح اليه إيران. ورغم ان أحمدي نجاد والعديد من المسؤولين الإيرانيين اعترفوا مرات عديدة بأن بلادهم تمكنت من تجميع آلاف من أجهزة الطرد المركزي، وانها مستمرة بتخصيب اليورانيوم، ورغم ان الاستخبارات الأميركية نفسها اصدرت بيانات وتصريحات سابقة تؤكد المنحى النووي للنشاط الإيراني، والخوف من انتاجها سلاحا نوويا عن قريب، كما ان قرارات العقوبات ضد ايران بنيت على قناعة تامة بأن ايران تعمل على انتاج اسلحة نووية.. رغم كل هذا السجل الماضي من النزاع، الذي يتضمن آلاف التقارير التي انشغل بها العالم واثارت الذعر في دول المنطقة، فإن 'انقلاب' الموقف الأميركي جاء مثيرا للاستغراب والدهشة، ومفاجأة للجميع. وبدا في الوقت نفسه للذين صدقوا ما قالته التقارير الأميركية السابقة، انه يؤكد تذبذب السياسة الاميركية وفق ما تتطلبه مصالحها، الى درجة لاتأبه لسمعة رئيسها الذي اظهرته متغابيا. فقد صرح مسؤول الأمن القومي ان الرئيس بوش حينما كان يطلق تصريحاته ضد إيران، فإنه لم يكن يعلم بتقارير الاستخبارات ولا بمحتوياتها، وهذه هفوة سياسية كبيرة وتبرير يؤكد ان سياسة الرئيس بوش ليست فقط 'ارتجالية'، انما اظهره هذا التبرير رئيسا متسرعا وجاهلا بالحقائق الاستخبارية لإدارته. وتساءل المراقبون: لماذا لم تتعامل إدارة الرئيس بوش والاستخبارات الأميركية مع العراق قبل احتلاله بهذه 'الموضوعية'، التي فبركتها الآن في تقريرها عن إيران؟ لماذا اصرت على التوجه النووي العراقي وغزت العراق ثم اكتشفت ان كل ادعاءاتها أكاذيب وخداع، وان العراق لايملك أي سلاح محظور! ورغم ان الاستخبارات الأميركية قالت في وقت سابق ان طهران ماضية في برنامج التسلح النووي، كما خاضت صراعا سريا حول 'الجواسيس' مع إيران، وتمكنت من حث بعض الاشخاص البارزين من معاوني أحمدي نجاد الى اللجوء اليها والهروب من إيران بمعلومات عن النشاط النووي.. رغم ذلك، فإن تقريرها 'المفاجأة' ألغى كل ما حصل في الماضي. واكتفى بالقول ان إيران أوقفت برنامج التسلح النووي عام ،2003 لكنها مستمرة في تطوير القدرات الفنية التي يمكن استخدامها في بناء قنبلة، وانها ربما تكون قادرة على انتاج كمية من اليورانيوم المخصب تكفي لصنع سلاح نووي (في وقت ما خلال الاطار الزمني الممتد بين عامي 2010 و2015). وهذه العبارات الغامضة العمومية تقال عادة لحفظ ماء الوجه وللتغطية على 'تلاعب' الإدارة الأميركية بالحقائق وتقلب توجهاتها، مما يحرج اصدقاءها في المنطقة. كان الأفضل ان يقولوا اننا تمكنا من عقد 'صفقة' مع ايران أو في طريقنا لعقد صفقة نسلمها 'لحيتنا' في العراق وتسلمنا 'لحيتها' في لبنان وفلسطين، ونظل في اطار التعاون، لاننا ادركنا أخيرا ان ايران قوة خليجية عظمى، وانها يمكن ان تحفظ مصالحنا أكثر من غيرها، وقد قيل ان في الصراحة راحة بدلا من اللف والدوران والتمويه والاستمرار في ألعاب 'توم وجيري'.