إنه حقا صيف ساخن جدا, فبقدر ارتفاع درجة حرارة الجو, كانت المواجهات المتلاحقة ملتهبة بين روسيا والدول الغربية خاصة بريطانيا وأمريكا مما يؤكد سعي موسكو الحثيث لتحقيق طموحاتها في العودة الي المسرح العالمي كقوة عظمي تستطيع حماية مصالحها وفرض ارادتها في القضايا الدولية. لقد تصاعدت المواجهات بين روسيا والغرب مؤخرا وكان آخرها حرب طرد الدبلوماسيين بين موسكوولندن بسبب الخلاف حول تسليم المتهم في قضية قتل العميل الروسي السابق الكسندر ليتفينينكو في بريطانيا وسبق ذلك ايضا تعليق روسيا معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا وعرقلتها مشروع قرار في مجلس الأمن بشأن مستقبل اقليم كوسوفا الصربي, بالاضافة الي معارضتها للخطط الأمريكية لنشر الدرع الدفاعية الصاروخية في بولندا والتشيك ومن قبلها رفضها تشديد العقوبات علي إيران بشأن برنامجها لتخصيب اليورانيوم. وبدون الدخول في تفاصيل قضية ليتفينينكو فمن الواضح ان بريطانيا أرادت بقرارها طرد الدبلوماسيين الروس وفرض قيود علي تأشيرات دخول الروس زيادة الضغط علي موسكو وحشد التأييد الأوروبي لموقفها وبالتالي إجبار النظام الروسي علي تسليم المتهم أندري لوجوفوي لمحاكمته. ومن منطلق الندية وكقوة عظمي, ردت روسيا بالمثل بل وزادت وقف التعاون مع لندن في مكافحة الإرهاب وذلك لتوجيه رسالة الي الرأي العام الأوروبي بأن دول القارة ستخسر من توتر علاقاتها مع موسكو التي تحتاج هي الأخري لهذا التعاون أيضا. ورغم الصخب الحاد بشأن الأزمة فإنه يبدو جليا حرص الجانبين علي عدم التصعيد لمستويات أعلي وذلك نظرا للمصالح الاقتصادية القوية المتبادلة بينهما فالشركات البريطانية لديها استثمارات في روسيا تقدر بنحو12 مليار دولار بالاضافة الي طموحاتها في مجال الطاقة الروسي خاصة أن بريطانيا تعد مستهلكا رئيسيا للبترول والغاز الروسي وكذلك المعادن النفيسة. كما أن حجم التجارة بين الجانبين يقدر بنحو14 مليار دولار سنويا وهو مايشكل عامل كبح إضافيا للجانبين علي حد قول ديمتري ترينين الخبير بمركز كارنيجي موسكو للدراسات. وربما كان أحد حلول الأزمة في اتفاق روسيا وبريطانيا علي اجراء تحقيق مشترك في القضية بدون عقبات ومحاكمة لوجوفوي بشفافية أمام محكمة روسية, مما يحقق بعضا من مطالب الجانبين. أما بالنسبة لقضيتي معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا ونشر الدرع الصاروخية الأمريكية في بولندا والتشيك فإنهما مرتبطتان عضويا ولايمكن الفصل بينهما, لقد أرادت روسيا الضغط علي الجانب الأوروبي والأمريكي بتعليق معاهدة الأسلحة التقليدية التي تحد من نشر الدبابات والطائرات والقوات في منطقة مابين جبال الأورال الروسية والمحيط الاطلنطي وتعتبر أساسية بالنسبة للتوازن الاستراتيجي والأمن والاستقرار في أوروبا وذلك لإجبار واشنطن علي التراجع عن خطط نشر اجزاء من درعها الصاروخية في بولندا والتشيك وهو الأمر الذي تعتبره موسكو تهديدا استراتيجيا لعمقها علي المدي البعيد. وفي مواجهة الاصرار الأمريكي علي نشر الدرع الصاروخية ورفض واشنطن اقتراح روسيا بالمشاركة في الدرع واستغلال احدي قواعدها في ذلك, يبدو أن موسكو ستواصل ضغوطها في هذا الاطار حيث طالبت بالعمل مع واشنطن علي التوصل الي نسخة مبسطة من معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية ستارت التي ينتهي العمل بها في ديسمبر2009 وتقضي بتقليص الترسانة النووية طويلة المدي للجانبين بنسبة30%, وكذلك تحويل معاهدة القوات النووية متوسطة المدي الي معاهدة متعددة الأطراف وبالتالي فإن التوصل الي اتفاق بشأن هذه المعاهدات يتطلب تنازلات من الجانب الأمريكي بشأن الدرع الصاروخية. وبالنسبة لقضيتي اقليم كوسوفا وتشديد العقوبات علي ايران, فان الجانب الروسي يريد تأكيد ظهوره كقوة عظمي مؤثرة علي المسرح العالمي, كما أنه يحاول حماية حليفة التقليدي صربيا بعرقلة مشروع قرار أوروبي أمريكي في مجلس الأمن يمهد الطريق لانفصال كوسوفا مالم يتوصل الصرب والألبان في الاقليم الي اتفاق حول مستقبله في غضون120 يوما. ان مختلف الأحداث تثبت ان روسيا بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين لديها طموحات قوية لاستعادة مكانتها كقوة عظمي والتي فقدتها بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق, وذلك معتمدة علي أهميتها بالنسبة لأوروبا باعتبارها المصدر الرئيسي للطاقة للقارة, وارتفاع أسعار البترول والغاز, مما حقق لها فائضا كبيرا في الدخل خاصة مع امتلاكها مخزونات هائلة منهما, بالاضافة الي نجاحها في تحقيق بعض النمو والاستقرار الاقتصادي. وربما كان بوتين يمهد لبقائه لفترة ثالثة في الرئاسة بالتركيز علي قوة روسيا عالميا وهو الاتجاه الذي يحظي بتأييد غالبية الروس مما يكسبه شعبية أكبر وبالتالي يسمح له بتغيير الدستور والاستمرار في الحكم, أما في حالة وفائه بتعهداته بالرحيل العام المقبل, فان بوتين بذلك يرسم السياسة المستقبلية لروسيا خاصة في حالة تولي أحد مقربيه الرئاسة.