يطالعنا صباح غد السبت شمس اليوم العالمي للغة القرآن الكريم، تلك اللغة التي لا يمكن أن نفهم ديننا فهما صحيحا، ولا أن نستقي أحكامه من كتاب ربنا (عز وجل) وسنة نبينا (صلى الله عليه وسلم) إلا بفهم أسرارها فهما دقيقا، وهو ما اشترطه العلماء في المجتهد، وكان أحد العلماء السابقين يقول: إن فهم الكتاب والسنة فرض واجب، ولا يتم إلا بتعلم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكان سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: "تعلموا العربية فإنها من دينكم"، ومر على قوم يتعلمون الرمي فيخطئون، فلامهم على ذلك، فقالوا: "إنا قوم متعلمين" بنصب ما حقه الرفع، فقال (رضي الله عنه): "لخطؤكم في لسانكم أشد عليّ من خطئكم في رميكم". ولا شك أن الحفاظ على لغتنا هو حفاظ على هويتنا العربية الإسلامية، يقول الحق سبحانه في شأن القرآن الكريم ولغته: "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ" (الزخرف : 44) وسوف تسألون عن هذه النعمة، حيث أعلى القرآن الكريم من شأن العرب ومن شأن لغتهم، وجعلها لغة ذات دين سماوي، حيث أسهم القرآن الكريم والعناية به إسهامًا كبيرًا في الحفاظ على اللغة العربية وكونها ذات دين سماوي، وكانت المعجزة الكبرى لرسولنا (صلى الله عليه وسلم) هي القرآن الكريم ببيانه وأسراره اللغوية والعلمية والكونية والروحية الإيمانية، فقد كان لكل نبي منهج ومعجزة غير المنهج، فمعجزة سيدنا موسى (عليه السلام) كانت في اليد والعصا، ومنهجه كان في التوراة والصحف، ومعجزة سيدنا عيسى (عليه السلام) كانت في إبراء الأكمه والأبرص والأعمى وإحياء الموتى بإذن الله (عز وجل)، ومنهجه كان في الإنجيل الذي أنزل عليه، أما سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) فكانت معجزته الكبرى هي عين منهجه، فمعجزته الكبرى هي القرآن الكريم، وركائز منهج الإسلام في القرآن الكريم نفسه، ذلك أن المناهج السابقة كانت موجهة إلى أهلها في عصورهم فارتبطت المعجزة بالمنهج، من رآها آمن بها، ومن لم يرها فهو غير مطالب بها، بخلاف منهج الإسلام ومعجزته فهما لكل زمان ومكان، فاقتضت حكمة الله (عز وجل) أن تكون المعجزة باقية ببقاء المنهج، وكأن الحق (عز وجل) يقول لبني البشر جميعا هذا رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وهذا منهجه وهذه معجزته مرتبطة بالمنهج وباقية ببقائه ليكون ذلك حجة على بني البشر جميعا إلى أن يرث الله (عز وجل) الأرض ومن عليها، وصدق الحق (سبحانه وتعالى) إذ يقول في محكم التنزيل: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر : 9). وتتميز لغة القرآن الكريم بأن كل لفظة أو مفردة من مفردات القرآن الكريم قد وقعت موقعها، حيث يقتضي المقام ذكرها دون سواها أو مرادفها، فإذا جاءت الكلمة معرفة أو نكرة كان لاقتضاء المقام ذلك، وإذا جاءت مفردة أو جمعا كان ذلك لغرض يقتضيه السياق، وقد يؤثِر النص القرآني كلمة على أخرى وهما بمعنى واحد، ويختار كلمة ويهمل مرادفها الذي يشترك معها في أصل الدلالة، وما كان للمتروك أن يقوم مقام المذكور أو يدانيه بلاغة لو ذكر مكانه، ولنضرب بعض النماذج على ذلك: 1- كلمة "إصلاح" في قوله تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (البقرة : 220). فلو تأملنا هذه الآية جيدًا، ونظرنا على وجه التحديد في موقع كلمة " إِصْلَاحٌ"، ثم فكرنا في بدائلها اللغوية ومشتقاتها وما يرادفها، وحاولنا أن نضع أي بديل لغوي رأسيًا أو أفقيًا في موضعها لوجدنا أن العربية على عمقها واتساعها عاجزة عن أن توافينا أو تمدنا بكلمة يمكن أن تقوم مقام كلمة "إِصْلَاحٌ" في هذا الموضع. فالإصلاح أمر جامع لما يحتاج إليه اليتيم. 2- قوله تعالى على لسان زكريا (عليه السلام): "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِى آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا" (آل عمران : 41)، وفي سورة مريم: "ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا" (10).ذلك أن أيام العرب وشهورهم وسنيهم قمرية، فالليل في حسابهم يسبق النهار، ففي التاسع والعشرين من شعبان نترقب هلال رمضان فإذا ظهر هلال رمضان كانت أول ليلة من ليالي رمضان ثم يعقبها أول يوم منه، وهكذا في هلال شوال وسائر الشهور. فسورة مريم التي جاء فيها ذكر الليالي مكية، وسورة آل عمران التي جاء فيها ذكر الأيام مدنية، وسورة مريم سابقة في نزولها لسورة آل عمران، فجعل النص القرآني السابق للسابق واللاحق للاحق. 3- في قوله تعالى على لسان إبراهيم (عليه السلام): "فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (إبراهيم : 36) لم يستخدم النص القرآني طباق السلب فلم يقابل "فَمَنْ تَبِعَنِى" بمن لم يتبعنى، واستخدم طباق الإيجاب في قوله: "وَمَنْ عَصَانِى"، لأنه لو قال ومن لم يتبعنى لشمل الحكم من بلغته دعوته (عليه السلام) ومن لم تبلغه هذه الدعوة، أما حين قال: "وَمَنْ عَصَانِى" فقد اقتصر الأمر على من بلغته الدعوة وعصى، وهذا من رحمة الله بعباده، حيث يقول سبحانه: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء : 15)، غير أنه تبقى مسئولية كبيرة على الدعاة في البلاغ المبين وتوصيل رسالة خاتم الأنبياء محمد ( صلى الله عليه وسلم) إلى العالمين. نقلا عن جريدة الأهرام