سلاح الجو الأميركي حسم معارك كثيرة لكن السيطرة على الارض تبقى لا تحسمها الا القوات البرية قاتلت الولاياتالمتحدة في حربي العراق وحرب أفغانستان بجيش يعود معظم تكوينه إلى ما ورثته من الحرب الباردة. ولا شك ان هذه الحروب أظهرت تفوقا تكنولوجيا ساحقا، غير ان التفوق كان يعود إلى ما قبل حرب تحرير دولة الكويت، إلى ضرورات مواجهة حلف وارسو السابق الذي كان يتفوق عدديا. في هذه الحروب برزت عقيدتان رئيسيتان: عقيدة الجنرال كولن باول، وزير الخارجية الأسبق عندما كان رئيسا لهيئة الأركان المشتركة عام ،1991 ومفادها استعمال قوات ساحقة لتحقيق نصر سريع بالاستفادة من دروس حرب فيتنام التي قاتل فيها باول شخصيا بالتلازم مع وضع استراتيجية خروج. وفي عملية حرية العراق، كانت الغلبة لعقيدة وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد: استعمال قوات خفيفة الحركة تعمل بتنسيق مع قوات جوية ساحقة من دون الاكتراث باستراتيجية خروج. وقد نجحت هذه العقيدة في أفغانستان قبل العراق. في التحضير لعملية 'حرية العراق'، قال رامسفيلد إن الولاياتالمتحدة لم تستعمل غير حوالي عشرة % من قواتها البرية (حوالي 450 ألف فرد) لإنزال هزيمة ساحقة بجيش النظام العراقي السابق عام 1991.وقد أثبتت عقيدته صحتها: فالجيش العراقي السابق هزم في حرب برية لم تدم أكثر من ثلاثة أسابيع. لكن ما حدث في العراق منذ التاسع من أبريل من عام 2003 حتى الآن أعاد إلى الأذهان رأي رئيس الأركان السابق للجيش الأميركي الجنرال إريك شينسكي، فهذا الأخير دعا إلى نشر ما لا يقل عن أربعمائة ألف جندي في العراق، لكن نزاعا بينه وبين رامسفيلد انتهى لمصلحة الأخير، وربما كان رامسفيلد يعرف ان نشر اربعمائة الف جندي مرة واحدة يقضي على اي امكانية لتبديل القوات. الآن، تجد القوات البرية الأميركية نفسها وسط ما يشبه صراع العقائد. فالمغرمون بتكنولوجيا المعلومات، مثل رامسفيلد يؤكدون صواب رؤيتهم في حرب العراق الأخيرة وقبله حرب أفغانستان، أما التقليديون، وهم أساسا جنرالات خدموا في القوات البرية، فمازالوا يشددون على أهمية العنصر البشري في أي حرب، ويرون ان للتكنولوجيا حدودا لا تستطيع تخطيها، وهكذا يستنتجون ان على الولاياتالمتحدة أن تمتلك قوات برية (الجيش والمارينز والحرس الوطني) ضخمة. يعتبر التخطيط للمستقبل عملية ضرورية لا تستطيع الجيوش الكبرى تجاهلها، لكن هذه العملية تبقى محفوفة بالمخاطر نظرا إلى أن الاستراتيجيين قد يقعون في أخطاء غير بسيطة، والمجهول يكون حافلا بالمفاجآت دائما. في حملته الانتخابية الرئاسية عام ألفين، لم تكن مكافحة الإرهاب الدولي ذات أولوية أولى على جدول أعمال الرئيس جورج بوش، وقد تغير كل شيء بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد. سلاح الجو أولا في السابع من أكتوبر من عام ألفين وواحد بدأت الولاياتالمتحدة حربها على تنظيم القاعدة وحركة طالبان بأسلحة يعود معظمها إلى الترسانة المخصصة للدفاع عن الأمن الوجودي الأميركي وكذلك عن مصالح الولاياتالمتحدة في الخارج: طائرات 'بي - 52' و'بي - واحد' العملاقتين و'بي - 2' (الشبح) وأنواع أخرى من الطائرات القاذفة الصغيرة مثل 'إف 16' أو 'إف - 14'. لكن التخطيط للمستقبل يبقى عملية ضرورة، لأن الجنرالات والاستراتيجيين لا يستطيعون انتظار وقوع أحداث ضخمة، حتى يخططوا لها من بعد فوات الأوان. يدافع كثيرون عن عقيدة رامسفيلد ولو لم يذكروها حرفيا. وفي هذا الشأن يعتقد الميجور جنرال الطيار تشارلز جي. دونلاب ان زيادة القوات البرية لا ضرورة لها أبدا على الرغم مما يحدث في العراق.كتب الميجور جنرال الطيار دونلاب في مجلة القوات المسلحة الأميركية عدد سبتمبر 2006 ان القوات البرية الأميركية لم تتعرض لغارة جوية واحدة منذ حرب فيتنام تقريبا (ما عدا إصابة موقع أميركي بصاروخ عراقي عام 1991)، أما نظرية الجنرال دونلاب فتقول ما يلي: إن المطالبين بزيادة عديد القوات البرية، خصوصا في حروب منخفضة الشدة ضد ميليشيات متمردة أو إرهابية كما في العراق وأفغانستان هي أشبه بمطالبة بعض جنرالات الحرب العالمية الأولى بزيادة عدد قوات المشاة من اجل التغلب على الخصوم بعد ظهور السلاح الرشاش. فماذا كانت النتيجة: سقوط اعداد اكبر من الخسائر البشرية تحت نيران الرشاشات، وهو يستنتج ان زيادة القوات البرية الاميركية في العراق وافغانستان تعني زيادة الخسائر البشرية حكما واعطاء الاعداء مزيدا من الاهداف حتى يرموا عليها. بل يعتقد الجنرال دونلاب ان وضع قوات برية لفترة طويلة في ميدان قتال خارجي مثل فيتنام والعراق وافغانستان سيؤدي حتما الى ظهور فضائح مثل فضيحة مجزرة 'مي لاي' في فيتنام وفضيحة سجن ابوغريب وبلدة حديثة في العراق، نتيجة الارهاق النفسي الذي يتعرض له الجنود وهم يقاتلون عدوا عديم الرحمة لا يتقيد بأي شيء مما في قوانين الحرب.يدافع الجنرال دونلاب عن رؤيته بالحملة الجوية التي شنتها قوات حلف شمال الاطلسي على الجيش الصربي في اقليم كوسوفو عام 1999، ويقول ان الرئيس الصربي وقتذاك سلوبودان ميلوسيفيتش اضطر الى الاذعان حتى من دون ان يضع جندي واحد من الحلف قدمه على ارض كوسوفو.\ لم يتحدث الجنرال الطيار في مقالته عن الاخطاء التي يمكن ان ترتكبها القوات الجوية، ففي كوسوفو، قتل العشرات من الالبان الذين جاءت قوات حلف شمال الاطلسي لتنقذهم بغارات خاطئة، وفي افغانستان، قتل المئات من المدنيين في غارات جوية، اما نتيجة اخطاء بشرية او بسبب معلومات استخباراتية ناقصة او غير صحيحة او لأن المسلحين يتدرعون بالمدنيين، بل ان القوات البريطانية قرب البصرة لم تسلم من نيران اميركية صديقة عام 2003 عند قصفتها طائرة من نوع 'اي - 10'، فالتكنولوجيا المتطورة الفائقة الدقة اثبتت فعاليتها، لكن المعلومة الصحيحة هي الوسيلة التي تجعل هذه التكنولوجيا فعالة، فما العمل عند مقاتلة عدو يجيد اساليب التمويه؟ وفي اي حال، تكون الخسائر البشرية والمادية الناتجة عن اخطاء القوات الجوية اعلى بكثير مما يمكن ان تسببه اخطاء القوات البرية. فوق ذلك، لا تكون القوات الجوية بمأمن من تكبد خسائر كبيرة، اما بسبب حوادث او اعطال او وقوع اسرى لدى العدو، وهذا يذكر بما فعله النظام العراقي السابق عندما اسقط عددا من الطائرات الحليفة عام 1991، او الاحراج الذي اصاب الولاياتالمتحدة عندما احتجزت الصين طاقم طائرة استطلاع اميركية بعدما اصطدمت بطائرة حربية صينية، واجبرت على الهبوط اضطراريا في مطار صيني.وربما يكون الجنرال دونلاب متشددا اكثر من اللازم لكونه طيارا، باعتبار ان خلفية التخصص في القوات المسلحة تؤثر في الرؤية التخصصية. وهو على حق عندما يعطي الاولوية للامن الوجودي للولايات المتحدة على امن مصالح الولاياتالمتحدة في الخارج.فالأمن الوجودي المضمون شرط ضروري للانطلاق نحو حماية المصالح الخارجية، وفي كلا الحالين يشكل سلاح الطيران بقسميه الاستراتيجي والتكتيكي وسيلة لا غنى عنها. على الرغم من انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، يشدد الميغور جنرال دونلاب على ضرورة تعزيز الدفاع الاستراتيجي الاميركي، بما فيه سلاح الطيران واعطائه الاولوية على قوات البر، باعتبار ان المستقبل قد ينطوي على مفاجآت قد تبدو غير معقولة الآن، وهو يشير الى الصين تحديدا التي تملك اقتصادا يتنامى باطراد وتخضع لحكم نظام شيوعي. انتصار محدود للتقليديين يعتبر قرار زيادة عديد القوات البرية ب 92 الف رجل انتصارا ل 'التقليديين' على اصحاب نظرية الثورة في الشؤون العسكرية، لكنه انتصار نسبي لسببين: ان مجرد اقتصار الزيادة على العدد المذكور انفا يؤكد وجود حدود لا تستطيع الولاياتالمتحدة تخطيها في زيادة حجم قواتها البرية. وقد ولت ايام الجحافل التي خاضت معارك في جبال اوروبا والمحيط الهادئ، ابان الحرب العالمية الثانية، فالخدمة الالزامية لم تعد موجودة. واستنادا الى اندرو كريبنيفيتش، رئيس مركز تقديرات الميزانية والاستراتيجية في واشنطن، ارتفعت كلفة الاحتفاظ بالجنود في الخدمة بين عامي 2003 و2006 من 85 مليون دولار الى 735 مليون دولار، وازدادت كلفة الانفاق على الجندي الواحد خمسين % منذ عام الفين وواحد لترتفع من 75 الف دولار الى 120 الف دولار سنويا. لكن القوات البرية الاميركية عانت مشكلات كثيرة منذ عام الفين وواحد، فعلى الرغم من زيادة الحوافز المالية انخفضت اعداد المتطوعين ومؤهلاتهم، فقد منح الجيش الاميركي ثمانية آلاف وخمسمئة اعفاء تخفيضي في عام 2006 في مقابل 2260 فقط قبل عقد من الزمن. استنادا الى تقرير خدمة كريبنيفيتش امام الكونغرس، فقد ارتفع عدد الاعفاءات الممنوحة لمرتكبي الجنح بنسبة ثلاثين % عام 2006 عما كان عام 2005. ويضيف الباحث الاميركي نفسه ان 82 % من المتطوعين عام 2006 كانوا حاصلين على الثانوية العامة مقابل حد مطلوب لا ينخفض عن تسعين في المائة. وهذا التدهور ينال كثيرا من تكوين قوات برية ذات تكنولوجيا متطورة تحتاج الى ثقافة علمية لا بأس بها. ويشير كريبنيفيتش الى مشكلة ظهرت في العراق وهي الاعتماد على شركات امنية خاصة لتأدية مهمات يفترض اسنادها الى الجيش وقوات المارينز. وقد قدر عدد العاملين لدى شركات امنية في العراق بحوالي 20 الف متعاقد اي ما يوازي حجم الزيادة البشرية التي اقرها الرئيس بوش للقوات العاملة في العراق وحده. فخلافا للمعايير المتبعة في الجيش وقوات المارينز، لا تكترث الشركات الامنية بالشروط المهنية المطلوبة او السلوك الشخصي عند العمل، وفي كثير من الحالات كان المتعاقدون يسببون احراجا لقوات التحالف بسبب خرقهم قوانين الحرب. اضافة الى ذلك، كانت الشركات الامنية، التي تقدم مزايا مالية مغرية، تجتذب كثيرا من عناصر القوات الخاصة الاميركية الذين يفضلون العمل الخاص على البقاء في وحداتهم. حروب مكافحة التمرد يشكل الصومال مثالا على الحروب التي يمكن ان تخوضها القوات البرية الاميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والعملية التي بدأت في عهد الرئيس جورج بوش الاب باعتبارها مهمة دولية برعاية الاممالمتحدة لاغراض انسانية، انتهت في عهد خليفته الرئيس بيل كلينتون بانسحاب مهين للقوات الاميركية. جاء الانسحاب من الصومال بعد فترة قصيرة من انتصار ساحق حققته القوات الاميركية ضد الجيش العراقي السابق وكان الاول منذ هزيمة فيتنام، لكن القوات نفسها التي قضت على منطق الغزو جاء كثير منها من قواعد في اوروبا، حيث كانت تتمركز في مواجهة جيوش الدبابات السوفيتية. وكانت كثافة تمركز القوات البرية الاميركية في اوروبا تعكس اصرارا على منع حدوث 'فيتنام اخرى'، لكن الحرب الباردة انتهت من دون اي طلقة. الان ربما ترتفع صيحات تنادي بان 'لا عراق بعد اليوم'، وفي هذا الصدد يعتقد كريبنيفيتش انه اذا كان المقصود هو منع الاخطاء التي حالت دون ترسيخ الانتصار في العراق، فان الشعار يكون صحيحا، اما اذا كان المقصود هو عدم تحضير القوات البرية الاميركية لخوض حروب متجانسة وغير متجانسة في آن فإن الشعار يكون غير صحيح. يعتقد انه ليست هناك دولة تستطيع مقارعة الولاياتالمتحدة بجيش تقليدي حديث من دون ان تدفع كلفة مالية قاتلة لبناء مثل هذا الجيش. في المقابل، يؤدي انتشار التكنولوجيا الى زيادة قوة الجماعات غير النظامية التي تقاتل الولاياتالمتحدة، ومن ذلك استعمال الانترنت والهواتف الفضائية وتطوير عبوات ناسفة مدمرة على سبيل المثال لا الحصر.ويتحدث كريبنيفتش عن دول حليفة للولايات المتحدة مثل باكستان ونيجيريا تعاني مشكلات مزمنة مع تنظيمات مسلحة ذات برامج سياسية خاصة. وبناء على ذلك، يعتقد ان القوات البرية قد تواجه حروبا مقبلة غير متصورة الآن، لا تستطيع فيها القوات الجوية تحقيق الكثير. وهذه الحروب لن تكون فيها قوات معادية مدرعة مثل الحرس الجمهوري العراقي الذي حطمته الغارات الجوية وفرق المشاة المدرعة. يتفق كريبنيفتش مع ما جاء في 'المراجعة الدفاعية الرباعية' (التي تصدر كل اربع سنوات) الاخيرة الصادرة العام الماضي، ومفاده ان على القوات البرية الاميركية ان تكون مستعدة في آن لخوض حروب تقليدية (ضد جيوش نظامية) وحروب غير متجانسة ضد قوى مسلحة غير نظامية. وهنا يركز الباحث الاميركي في شهادته امام الكونغرس على مفهوم القوة المشتركة والقدرات الاميركية الخاصة مثل الذخائر الدقيقة. لكنه لم يتحدث عن زيادة ضخمة للقوات البرية، وهذا ما قد تضطر اليه الولاياتالمتحدة لاحقا. تقوية الشريك المحلي في المراجعة الدفاعية الرباعية، التي صدرت قبل استقالة رامسفيلد من وزارة الدفاع، وردت التوصية بزيادة عديد القوات البرية (الجيش والمارينز) وقد شكل ذلك اعترافا بمحدودية قدرة القوة الخفيفة المرنة في الحرب ضد جماعات غير نظامية. وركزت المراجعة الدفاعية السابقة على ما يسمى تقوية الشريك المحلي، وتمثل ذلك، في العراق بإعادة بناء الجيش والشرطة الجديدين. وقد كان الجنرال ديفيد بتريوس، القائد السابق للفرقة '101' أول من مارس تلك المهمة في تدريب القوات العراقية الجديدة، بل في ابتكار تكتيك مواز للعمليات القتالية هو بناء علاقات مع السكان المدنيين من خلال الاهتمام بالشؤون غير الامنية مثل اصلاح المرافق العامة. ليس منتظرا ان يحسم صراع العقائد العسكرية في الندوات، انما تحدد نتيجته الضرورات العملية البعيدة من اي ايديولوجيا. وإقرار الادارة الاميركية استراتيجية جديدة في العراق يعني حتما ان الاستراتيجية السابقة فشلت. وفي هذه الاثناء، يشكل العراق ميدانا لاختبار نظم اسلحة وتكتيكات جديدة تخص القوات البرية اساسا.