بدا واضحا أن معركتنا مع العالم الخارجي في المرحلة المقبلة سوف تكون أصعب من الأزمة الداخلية; لأسباب عديدة, أهمها أن هناك في الداخل من يتبنى عمليات التحريض, وهناك في الخارج من ذهبت مؤامراتهم أدراج الرياح. هذه هي الحقيقة التي كان يجب التعامل معها بوضوح وصراحة منذ اللحظة الأولى, وهي كشف حقيقة المؤامرة الخارجية على مصر, التي تسربت بعض معالمها إلا أن أحدا لم يضعها مكتملة أمام الرأي العام, حيث كان ذلك سيرفع الكثير من الأعباء عن كاهل السلطة الرسمية من جهة, وسوف يضع الشعب أمام مسئولياته لمواجهة الموقف من جهة أخرى. فقد استفاق الشعب على لوثة عقلية أصيبت بها الولاياتالمتحدةالأمريكية, وبعض دول الغرب, نتيجة فشل هذه المخططات, وبهذه السرعة الفائقة, وبعد إنفاق غير مسبوق من الأموال, في وقت بدأت تتواتر فيه أنباء مخزية عن تفريط رسمي في سيناء, أو جزء منها, وعلاقات مع الإرهابيين, أو بعضهم, وإفراج عن محكوم عليهم, وتمكين اقتصادي لآخرين, ومنح الجنسية المصرية لهؤلاء, وبطاقات شخصية لأولئك, وجميعها قضايا لم يكن ممكنا لأي مسئول ذي حس وطني الانبطاح أمامها. ولذلك.. فقد جاء تفويض الشعب للجيش بالتعامل مع الموقف, الذي أراه في حقيقة الأمر عكسيا, بمعنى أنه كان تفويضا من الجيش للشعب بتحمل مسئولياته, وهي المعادلة التي أربكت العالم شرقا وغربا, فانهارت معها كل المخططات, وتهاوت أمامها كل المؤامرات, إلا أن ما هو مؤكد أن الحقائق كاملة لم يتم إعلانها حتى الآن, رغم أن المرحلة أصبحت تتطلب ذلك. ودعونا نتحدث بصراحة تامة. ونؤكد أن انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر قد نتج عن أسباب بعضها ظاهر واضح, وآخر مازال في طي الكتمان, إلى حد كبير, وما هو ظاهر منها ينقسم إلى ثلاثة محاور: الأول يتعلق بممارسات الإخوان أنفسهم, حيث لم يستطيعوا على مدى عام كامل اكتساب صديق, وذلك من خلال مصالحة وطنية كان المجتمع أحوج ما يكون إليها في السابق مثلما هو الوضع الآن, ولطالما ناشدنا في هذا المكان' إجراء مراجعة مخلصة لعمليات الإقصاء, والسجن, والحبس, والاضطهاد لقيادات الحزب الوطني السابق بصفة خاصة, وفي الوقت نفسه احتواء التيارات السياسية الأخرى, التي كانت قد رحبت في بداية الأمر بفوز الرئيس السابق محمد مرسي رئيسا للبلاد, إلى أن تغيرت مواقفها الواحدة تلو الأخرى نتيجة أمور عديدة. أضف إلى ذلك أن هناك تيارات إسلامية, في مقدمتها حزب النور, كان يجب أن تجد لدى حكم الإخوان الحضن الدافئ والملاذ الآمن, إلا أن ذلك لم يحدث أيضا في إطار فشل الممارسة السياسية, وبالتالي فلم يكن هناك نصير حتى من أقرب الأيديولوجيات, في وقت كان ومازال يعتقد فيه المواطن أنها في سلة واحدة, ومن هنا فقد أضر ذلك الفشل بكل تلك التيارات, ربما لعقود طويلة مقبلة, بل أضر بالمشروع الإسلامي ككل, ليس في مصر فقط, بل في تجارب عديدة من حولنا, وهو الأمر الذي يؤرق الأقران في تونس وحتى تركيا, وما بينهما, وهو أيضا ما يفسر سر الهجوم الضاري على مصر وشعبها الآن, في ميادين هذه الدول ومنتدياتها, لدرجة وصلت إلى حد استعداء المنظمات الدولية على مصالحنا ومقدراتنا. المحور الثاني الذي لا يقل أهمية هو أن اسم الاخوان المسلمون قد ارتبط في الذاكرة المصرية وغيرها بالمشروع الإسلامي, وهو المشروع الذي لم نجد له أي نصيب من الطرح أو الذكر على مدى عام كامل, بدءا من حملة الرئيس السابق الانتخابية, ومرورا بالممارسات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية, على الرغم من أن قطاعا عريضا في المجتمع قد أولى ثقته لمرشح الإخوان, سواء في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية, انطلاقا من هذا المفهوم, إلا أن هذا القطاع قد أصيب بالصدمة مع تواتر أنباء عن دعم الرئيس شخصيا الملاهي الليلية, ومحال بيع الخمور, وصالات القمار من خلال مد تراخيص عملها لسنوات أطول, أو الاعتماد على ضرائبها كعامل أساسي في زيادة الدخل القومي من خلال رفع نسبة الضريبة وخلافه. أما المحور الثالث هو ذلك الفشل الذريع في توفير حاجة المواطن اليومية من مواد بترولية, وكهرباء, ومياه, وإن كنت بصفة شخصية أعتقد أن الدولة العميقة بسيطرتها, التي مازالت قائمة, قد لعبت دورا أساسيا في ذلك الفشل, إلا أن المواطن في نهاية الأمر لا يعنيه تفصيل الموقف وتحليله بقدر ما تعنيه النتيجة النهائية, وهي أنه يعاني يوميا, سواء أمام محطات الوقود لتعبئة سيارته, أو كمزارع في الحصول على احتياجاته من السولار لتشغيل ماكينات الري, أو كأسرة لم تعتد انقطاع التيار الكهربائي بهذا الشكل الصارخ, وما يستتبع ذلك من أزمات, وهو ما جعل كل هؤلاء مجتمعين على أهبة الاستعداد للانضمام إلى أي تجمعات من شأنها الإطاحة بالنظام حال أي نداء في هذا الصدد. أما العوامل غير الظاهرة, التي مازال النقاب لم يكشف عنها إلى حد كبير, فهي تلك المتعلقة بتسريبات عن اتفاقيات من نوع ما مع الولاياتالمتحدةالأمريكية, وإسرائيل بصفة خاصة, ونذكر, في هذا الصدد, ذلك الاتفاق الذي رعته مصر بعدم إطلاق منظمة حماس صواريخ على دولة الاحتلال, وما تم تسريبه عن منح الفلسطينيين أرضا مصرية في سيناء, وما يتعلق بتنامي قوة التنظيمات الإرهابية هناك, والعلاقات الوطيدة بين الجماعة وقيادات تلك التنظيمات, لدرجة رصد لقاءات واتصالات هاتفية على قدر كبير من الخطورة في هذا الشأن, وما يتعلق بملف الأنفاق التي كانت بمثابة عامل هدم للاقتصاد الوطني, وعامل دعم للإرهاب, ثم الموقف مع السودان من قضية حلايب وشلاتين, والحديث عن قواعد عسكرية أمريكية في مصر, لم تحصل عليها في عهد أي رئيس سابق, وجميعها ملفات نحن في حاجة إلى فتحها بشفافية كاملة ودون مواربة. نحن لن نعتمد التخوين, كاتهام رئيسي في هذه أو تلك, أما ما هو مؤكد أن الإخوان المسلمين, وحزبهم الحرية والعدالة, كانوا أبعد ما يكونون عن ثقافة الأمن القومي للبلاد, فلا هم تعاطوها, أو درسوها, أو تلقوا فيها دورات تدريبية, وإنما تعاملوا مع الأشقاء على أنها دولة الخلافة, بلا حدود جغرافية, وتعاملوا مع الأصدقاء على أنهم قوى ضامنة للاستمرار والبقاء وما الإرادة الشعبية إلا شعارات للاستهلاك الإعلامي, على اعتبار أن ذلك كان هو حال المنطقة على مدى نصف قرن مضى, دون إدراك أن الأوضاع قد تغيرت, وأن ما كان في السابق أصبح الآن في خبر كان, بحكم عوامل عديدة نضجت معها الشعوب, وفي الوقت نفسه تراجعت معها أدوات ضغط القوى العظمى, وإن شئت قل "التي كانت عظمى". بالفعل.. فوجئ العالم بأن الشعب المصري يفرض إرادته بالتعاون مع قواته المسلحة, ومن هنا كان هذا الموقف الدولي المثير للانتباه والقلق في آن واحد, وهو ما يؤكد أن شيئا ما كان يحاك لمصر وأهلها, إلا أننا على يقين من أن لدينا من وسائل الضغط, ولدينا أيضا من رجال الدبلوماسية, وخبراء القانون; ما يفرض إرادتنا في المنظمات الدولية, التي سعى البعض, في الداخل والخارج معا, إلى إقحامها في الشأن الداخلي لدينا, وهو ما يوجب تضافر الجهود, وخاصة الإعلامية منها, لمقاومة ذلك التوجه الذي تقوده الآن تركيا, وتصريحات أخرى من بعض العواصم الأوروبية, اعتمادا على بعض الأصوات في الداخل, التي أرى أن دورها في الحياة السياسية المصرية يجب أن يوضع له حد, فالأمر الآن يتعلق بمستقبل مصر الدولة والشعب, في آن واحد. على كل.. يجب ألا تظل المعونة الأمريكية سيفا مسلطا على رقابنا, ويجب ألا يظل النفوذ الأمريكي في مؤسساتنا إلى ما لا نهاية, كما يجب أن تكون علاقاتنا مع دول الغرب قائمة على الندية والمصالح المشتركة, كما يجب ألا تبهرنا عضوية المنظمات الدولية التي لا تحترم إرادة الشعوب وتطلعاتها, فمصر كانت دائما, ويجب أن تظل كذلك, شرفا للعلاقات الثنائية مع الدول, وفخرا لعضوية المنظمات المختلفة, إقليمية كانت أو دولية, ومصر بثرواتها البشرية والطبيعية يجب ألا تنكسر أمام تهديد من هنا, أو مؤامرة من هناك, بل إن القيادة والريادة يجب أن تظلا هدفا رئيسيا للسياسة الخارجية المصرية, فكم كانت لنا أياد بيضاء على الآخرين, وسوف تظل كذلك بإرادة شعبية أيضا. نعم.. المعركة الخارجية تحتاج إلى إرادة شعبية جنبا إلى جنب مع الجهود الدبلوماسية, فهناك دبلوماسية الشعوب التي يجب أن تقودها منظمات المجتمع المدني, في مواجهة هذا الخطر, وهناك إرادة الشعوب, التي يجب ألا تتحطم أمام تهديدات تفصلنا عنها آلاف الأميال, وهناك في الوقت نفسه مستقبل أجيال يجب أن تتسلم الراية ناصعة دون تلوث استعماري أو عنصري, إلا أن كل ذلك يستلزم بالضرورة قيادة سياسية واعية تقود مسيرة التحدي هذه بخطى ثابتة وواثقة, مادامت تستمد قوتها من دعم الشعب, وهو ما يجب أن نراه واضحا ومعبرا عن المرحلة, تحت شعار "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى زمن الانكسار", وأعتقد أن الأجيال الجديدة لن تقبل بغير ذلك. بقي أن نشير إلى أن عملية الاستقواء بالخارج لن تكون أبدا أمرا مقبولا لدى جموع الشعب, ومن هنا فإن الداعين إليها يصبحون في حاجة إلى مراجعة مع النفس, وذلك لأنهم إذا خسروا الداخل فقد خسروا كل شيء, حتى لو توهموا تحقيق مكاسب خارجية, هي في الحقيقة رهن بعامل الوقت, لأن مصر سوف تظل بتاريخها وجغرافيتها مقصدا للباحثين عن القوة, وأملا تصبو إليه العواصم, ليس في محيطها الإقليمي فقط, وإنما على المستوى الدولي, وما هي إلا كبوة سوف تنهض منها أكثر فاعلية, وذلك بفضل جهود أبناء هذا الوطن في الداخل والخارج معا, وما ذلك على الله بعزيز. لجان البلطجة الشعبية..! مع أول وثاني أيام حظر التجول فوجئنا بتلك اللجان, التي تطلق على نفسها مسمى "اللجان الشعبية", وقد انتشرت في شوارع القاهرة طوال الليل, تقوم بتفتيش السيارات بمن فيها, مشهرين أسلحة بيضاء, وأحيانا نارية, ما بين مرخصة وغير مرخصة. هي في الحقيقة لجان في معظمها قائمة على البلطجة والبلطجية, ونذكر أنه مع بداية نشأتها عقب 25 يناير 2011 تطورت أساليبها إلى أن وصلت إلى حد فرض الإتاوات والاستيلاء على بعض المنقولات بالسيارات, بل وصل الأمر إلى مشاجرات واستخدام تلك الأسلحة. في دولة القانون, أيها السادة, يجب ألا يكون هناك مكان لمثل هذه الممارسات, فيجب أن تفرض سلطة الأمن سيطرتها في الشوارع والميادين, بإزاحة كل هذه المظاهر الفوضوية, ويجب أن تستعيد الدولة هيبتها بمنع كل هذا الهزل, الذي نعلم عواقبه مقدما, ويجب أن نخرج جميعا من هذه الحالة, التي تذكرنا طوال الوقت بأننا نعيش حالة حرب, أو كوارث. هذه هي الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن أذهان السلطة الرسمية, خاصة أنه لا يوجد لدينا نقص أو شح في أعداد رجال الأمن الذين يمكن أن يقوموا بمثل هذه المهام, التي يجب عدم إسنادها لآخرين تحت أي ظرف, حتى لو لم يكونوا مسجلين خطر, فما بالنا إذا كانوا كذلك؟! نعم.. سمعنا منذ اليوم الأول عن وقائع مأساوية نتيجة الصدام مع هذه اللجنة أو تلك, وشاهدنا وجوها لا علاقة لها بالشعب ولا بالشعبية, ولا يعقل بأي حال أن يطلع مجهول ما على بطاقة تحقيق الشخصية لضابط أو رجل قضاء, وكأن الهرم أصبح مقلوبا, وقد ينقلب أكثر إذا تشكلت هذه اللجنة من مجموعة إرهابيين, بهدف البحث عن شخصيات بعينها. يجب أن نعترف بأننا أمام كارثة, أو قنبلة, قد تنفجر في أي لحظة, يجب تداركها فورا قبل فوات الأوان, فمن حق أي مواطن أن يقوم بحراسة منزله أو متجره, لكن ليس من حق أحد السيطرة على الشارع, بهذا الشكل الفج, في وجود دولة بها كل مقومات الحياة, وليست في طور الإنشاء, كما ليس من حق أحد أن يشهر سلاحا في الشارع العام, حتى لو كان مجرد عصا أو آلة حادة, فكلها مظاهر تؤجج لمزيد من التسيب والتوتر في المجتمع, في وقت ننشد فيه الهدوء والاستقرار. ننتظر من الدولة الرسمية, من خلال الحكومة أو وزارة الداخلية, الإعلان فورا عن وقف كل هذه المظاهر, واعتبارها تقع تحت طائلة قانون الطوارئ, وإلا فلتعلن عدم أهليتها لذلك, ويصبح من حق كل مواطن حمل السلاح للدفاع عن نفسه, فمازالت أمامنا أربعة أسابيع حتى انتهاء هذا الحظر, إن لم يتم المد, وأعتقد أن أحدا لن يستطيع تحمل مثل هذه الممارسات, كما أن أمن الشارع يجب أن يظل مسئولية الجهة المنوط بها ذلك لسبب أصيل هو استعادة هيبة رجل الأمن التي ينتقص منها هؤلاء. نقلا عن جريدة الأهرام