كثر هم الحالمون بسقوط مصر الآن.. ليسوا أفرادا فقط أو جماعات وقوى سياسية، وإنما صحف خاصة، وفضائيات ممولة، ومنظمات مجتمع مدني مشبوهة، وجماعات دينية شاردة، وقوى إقليمية، وعواصم أجنبية.. وكثر هم الحالمون بكرسي الحكم في مصر الآن، هم ليسوا على مستوى تطلعات الجماهير، وليست لديهم الخبرة. ولم يتفاعلوا مع الشعب، اللهم إلا في واجب العزاء، والمزايدة على أحزانه وآلامه.. وكثر هم المتربصون بمصر الآن، من خلال تمويل أجنبي تارة، ودورات تدريب في الداخل والخارج تارة أخرى، بالتزامن مع الإعلان عن إقامة ائتلافات هنا، واندماجات هناك تشكك في النهاية، على الطريقة الشيوعية، في كل ما هو إيجابي أو يمكن أن يكون إيجابيا. الحالمون بسقوط مصر دأبوا في الآونة الأخيرة على رفع رايات وأعلام بألوان مختلفة لأقاليم محددة وسط التجمعات، ولطوائف مذهبية بعينها وسط المسيرات، في إشارة بالغة إلى أن الخطر القادم هو التقسيم ولا شيء غيره.. والحالمون بسقوط مصر لا يتورعون الآن عن العمل بنشاط بالغ وسط الاحتجاجات الفئوية والتجمعات العمالية في محاولة لإذكاء روح العداء مع الدولة الرسمية، بل التواصل مع هذه الفئات لاستخدامها في الوقت المناسب في تفجير الأوضاع، إما بإشعالها نارا، أو بشل حركة المجتمع ككل.. والحالمون بسقوط مصر لا يشغلهم بالتأكيد استقرار المجتمع، أو عودته إلى مسار العمل والإنتاج، بقدر ما يشغلهم استمرار الأضواء مسلطة عليهم إعلاميا وشعبيا رغم افتضاح أمرهم يوما بعد يوم. وفي ظل هذه المؤامرات رأينا في دلتا مصر قرى تعلن انفصالها، وفي صعيد مصر أخرى تعلن استقلالها، وفي ميادين مصر تلك الأعلام التي ترمز لهذا وذاك، دون موقف رسمي جاد بدعوى الديمقراطية، أو موقف حزبي على مستوى الحدث بدعوى الثورية، إلا أن ما يشغلني بصفة شخصية هو حجم وكم السلاح الذي يدخل مصر من حدودها المختلفة بصفة شبه يومية وآخرها أمس الأول في صفقة واحدة شملت أكثر من مائة صاروخ وآلاف المقذوفات، وإذا علمنا أن ما يتم الإمساك به هو 10% مما يتم تهريبه، فلنا أن نتخيل حجم السلاح الموجود داخل البلاد، إلا أن أحدا لم يستطع حتى هذه اللحظة تحديد الجهة أو الجهات التي تقف خلف هذه العمليات وتحت أي راية أو علم سوف يتم استخدام السلاح، ومتى؟!. يجب أن نعترف بأن ضعف الدولة هو العامل الرئيسي في استمرار هذه الأوضاع، وفي الوقت نفسه سوف نظل نؤكد أن هيبة الدولة هي الحل الطبيعي للخروج من هذا النفق المظلم، ولن تستعيد الدولة هيبتها إلا بإجراءات حاسمة مع رافعي هذه الرايات ومن يقفون خلفهم في آن واحد، حتى لو كانوا رموزا في المجتمع، وهم كذلك بالفعل، وحتى لو كانوا من الفاعلين في الميادين، وهم أيضا كذلك، وحتى لو كانت تجمعهم روابط أيديولوجية أحيانا مع السلطة الرسمية، وربما كانوا كذلك أيضا، فالأمر لم يعد يحتمل الهراء، والساحة لم تعد تحتمل المزايدات، كما أن رجل الشارع المسالم يجب عدم تحميله أكثر من ذلك. ولنكن أكثر وضوحا.. ونبحث في وجوه المشاغبين بشارع مجلس الوزراء قبل أيام قليلة براياتهم البيضاء، والحمراء، والسوداء، والخضراء، وذات النجوم، والنخلة، والهلال، وما شابه ذلك، وليؤكد لنا أحد أن هؤلاء هم الثوار، أو أن هؤلاء ينتمون إلى أحزاب، أو أنهم ينتمون إلى كيانات، اللهم إلا البلطجة، والتشرد، ورغم ذلك شاركوا وانتشروا عن طريق دعوات الفيس بوك التي نادت بها قوى وائتلافات لم تشارك على الطبيعة، وكأنها تعلم أن الدعوات موجهة لهؤلاء الشراذم، مما استدعى إغلاق المدارس المحيطة بالمنطقة، والمحال والمتاجر، ناهيك عن الشوارع وما تسببه من أزمات مرورية وأمنية، في ظل صمت السلطة الرسمية أيضا، التي لا نعلم، حتى الآن، متى ستتدخل أو تحرك ساكنا من أجل ذلك الموطن المسالم الذي يجب أن يشعر بالأمن والأمان، أو من أجل ذلك التلميذ الذي لا حول له ولا قوة؟! هذه الرايات مختلفة الألوان، سواء كانت ترمز إلى الخلافة أو الانفصال، أو الجهاد، أو حتى الجهل والغباء، أصبحت ملوثة بدماء الأبرياء من أقصى مصر إلى أقصاها، وسواء كانت تشير إلى تنظيمات دينية، أو قوى ثورية وإشتراكية، فهي في النهاية تحمل دلالة بالغة على فقدان الهوية والنزعة الوطنية، التي كان يجب أن تكون محور اهتمامنا بعد الثورة، إلا أن العكس هو الذي حدث، فقد أصبحت هناك قوى تهدف إلى الإجهاز على الدولة القومية، وفي المقابل قوى آخرى تسعى إلى ضرب النزعة الدينية، وقوى ثالثة باتت تعمل على تقطيع أواصر المجتمع وتمزيقه، وهي أمور، إن استمرت، فسوف تسفر في النهاية عن كفر عامة المجتمع بكل ما هو ثورة مهما يكن إيجابيا، إلا أن البحث سوف يظل مستمرا عن دور الدولة الرسمية. فالعبء الأكبر يظل واقعا على عاتق الدولة باستنهاض الهمم، وأداء سياسي واقتصادي أكثر فاعلية، وسوف يستتبع ذلك بالتأكيد سياسة داخلية جديدة تنطلق من عدم الإقصاء والاستعانة بكل ما من شأنه التقدم والتطور، أضف إلى ذلك الاهتمام بأقاليم الدولة المختلفة دون تمييز، وفي الوقت نفسه تصبح الدولة مطالبة بالضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بأمن البلاد، أو بمصالحها الوطنية، مع تأكيد أن هناك مصر واحدة، وبالتالي علما أو راية واحدة، مع التشديد بقوانين حاسمة على أن من يحمل غير العلم المصري قد ارتكب جرما من الدرجه الأولى يعاقب عليه بالسجن المشدد، وهنا فقط يمكن أن نقول إن الدولة قد بدأت في استعادة هيبتها المفقودة. وهنا يجب أن تدرك.. القوى السياسية والثورية معا أن السعي إلى تأليب الرأي العام وإثارة القلاقل والتواترات في أنحاء البلاد، لن يسفر أبدا عن الإطاحة بنظام حكم لحساب نظام آخر هو في الحقيقة لهو خفي ليس له وجود فعلي، وذلك لما ارتكبته هذه القوى من جرم في حق نفسها حينما لم تلتحم بالشعب كما يجب، فراحت تتاجر بالشعارات سواء في الميادين أو الفضائيات، وهو ما أفقدها فرصة تحقيق أي مكاسب سياسية على أرض الواقع، وسوف تظل كذلك على مدى سنوات طويلة مقبلة، في مواجهة فصيل وطني بذل جهودا مضنية على مدى 80 عاما في الشوارع والأزقة والحارات، وأيضا في النجوع والكفور، مما أكسبه أرضية واسعة قد نختلف أو نتفق معها، إلا أنها في النهاية أصبحت واقعا يجب أن نقبله بل نساعده على تحقيق برنامجه التنموي من أجل مصلحة مصر. ولأن الأمر كذلك.. فسوف نظل نطالب تلك الفصائل المتبعثرة بإعلاء مصلحة المواطن فوق أي اعتبار، وذلك بنبذ كل ما من شأنه إثارة التوتر، والعمل تحت راية مصر الجديدة التي سدد الشعب من أجلها دماء زكية يجب ألا تذهب أبدا سدى وعلى الجانب الآخر تصبح القيادة السياسية مطالبة باحتواء مواطن الخلاف الناشئة حاليا من خلال عدة إجراءات أراها على النحو التالي: أولا: العودة، وعلى وجه السرعة، إلى العمل بدستور 1971 مع تشكيل لجنة من خمسة فقهاء قانون على الأكثر لتعديل المواد الخاصة بصلاحيات رئيس الجمهورية، وذلك لأن هذه النزاعات القائمة حاليا حول الدستور الجديد لن تؤتي ثمارا بقدر ما تزيد من الشقاق والانشقاق، ناهيك عن أن دستور 1971 ربما كان افضل الدساتير بالمنطقة. ثانيا: إحالة ملف شبه جزيرة سيناء إلى القوات المسلحة ليس دفاعيا وأمنيا فقط، وإنما تنمويا أيضا، وغل يد السلطة التنفيذية عن هذا الملف عقدين كاملين سوف يتم خلالهما بالتأكيد النهوض بهذه البقعة العزيزة من أرض مصر، وقد عهدنا في القوات المسلحة الحسم والحزم، ناهيك عن الوطنية وإنكار الذات. ثالثا: الدعوة، على وجة السرعة، إلى انتخابات برلمانية بالنظام الفردي الذي تعودنا عليه عقودا عديدة، وحتى لا تشوبها أي شائبه دستورية أو حتى معنوية، يعقبها انتخابات محلية، مع الأخذ في الاعتبار أهمية دور المجالس المحلية في هذه الآونة لتخفيف الضغط عن السلطة المركزية. رابعا: إصدار قرارات وقوانين من شأنها وقف كل مظاهر البلطجة أو مقاومة السلطات وقطع الطرق وتعطيل العمل تحت أي مسمى وذلك لمدة عام على الأقل حتى تستعيد الدولة هيبتها والاقتصاد عافيته. إلا أنه يجب الأخذ في الاعتبار.. إن الدولة الرسمية لن تستطيع أبدا تحقيق ما يصبو إليه المواطن من أمن وأمان واستقرار بمنأى عن مساعدة المجتمع المدني وخاصة وسائل الإعلام التي دأبت دائما وأبدا على التصعيد وإثارة القلاقل، مستعينة في ذلك بآراء موتورة تارة، وفتاوي عبثية تاره أخرى ظهر معها المجتمع وكأنه فوق صفيح ساخن، وتراجعت معها الأنشطة السياحية والمشروعات الاستثمارية، مما جعل الجميع يعيش حالة من الترقب وربما الفزع مع غموض المستقبل في ظل فقدان الثقة بين التيارات المختلفة من جهة، وبينها وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى، وهو أمر، إن استمر، فسوف تتحمل وسائل الإعلام هذه عواقبه الوخيمة على، كل المستويات. فإذا كانت الأرقام تتحدث عن 6.5 مليار دولار تم ضخها في صناعة الإعلام المرئي فقط منذ الثورة وحتى الآن فنحن أمام قضية يجب أن نتوقف أمامها طويلا وخاصة في ظل تراخي أجهزة الرقابة في هذا الشأن، وعدم الكشف عن مصدر هذه الأموال، وفي ظل عدم التنسيق بين الأجهزة المنوط بها هذه القضية، وفي الوقت نفسه لا تتوافر معلومات واضحة حول مصادر تمويل العديد من الصحف الخاصة التي تنفق أيضا ببذخ برغم عدم وجود عائد مادي من وجودها يتناسب مع حجم هذا الإنفاق، وهو الأمر الذي يثير علامات إستفهام عديدة، إلا أن التنسيق الفج بين ما هو مرئي وما هو مكتوب يمكن أن يجيب عن العديد من التساؤلات، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ذلك الإهتمام الواضح من هذه وتلك بأصحاب الرايات والأعلام المختلفة، وليس هذا فقط، بل وبكل ما من شأنه تفجير المجتمع بدعاوي حرية الرأي والفكر والتعبير وغير ذلك من المصطلحات الرنانة التي أصبحت حقا يراد به باطل. على أي حال.. وأيا كان حجم المؤامرة أو الجهل بحقائق الماضي، فإن راية مصر سوف تظل خفاقة ترفرف من أقصى البلاد إلى أقصاها، وسوف تتوارى تلك الرايات الجبانة خلف إرادة شعب أثبتت حقائق التاريخ أنه يأبى الانكسار، وإذا كان شعب مصر قد بذل من دمائه الكثير دفاعا عن تراب الوطن في وقت من الأوقات، فهو لن يضن ابدا على وحدة ذلك التراب واستقراره، وسوف تظل مصر فوق الجميع وأكبر من أن يعبث بها متآمرون من هنا، أو عابثون من هناك، وسوف يلفظ الشعب أيضا هؤلاء وأولئك على المدى القريب وليس البعيد، وذلك بعد كشف كل ما ارتكبوه من آثام بحق هذا الوطن، سياسيين كانوا أو إعلاميين، عملاء كانوا أو مرتزقة. نقلا عن جريدة الأهرام