رغم خطورة الوضع الجيوسياسى للملكة الأردنية, خاصة فى ظل التطورات الخطيرة بالمنطقة إلا أن الرؤية المستقبلية المدعومة بآليات تنفيذية عصرية أتاحت تنفيذ مشروع تنموى عملاق وضع منطقة العقبة على خارطة المناطق الإقتصادية الجاذبة إقليميا ودوليا. وفيما تسير التطورات السياسية بخطى متسارعة نحو الحرائق المتتابعة فى دول الجوار خاصة العراق وسوريا, تمضى الحكومة الأردنية فى خطواتها المتسارعة أيضا لتطوير منطقة العقبة الإقتصادية بهدف الوصول إلى إستثمارات محلية وعالمية تقدر بمليارات الدولارات فى مختلف المجالات الصناعية والخدمية. ويبدو الموقع الجغرافى للأردن محل تندر يتصاعد مع زيادة اشتعال الأوضاع بالمنطقة فالقارىء لشكل خريطة الأردن التي تبتعد عن أي تشكيل جغرافي طبيعي إلا من الجهة الغربية يرى تشكيلا منسجما مع مسار حفرة الانهدام التي يمر فيها نهر الأردن ليصب في أكثر مناطق الكرة الأرضية انخفاضا وهو البحر الميت. أما الحدود المتبقية فتبدو مرسومة بعناية طبيعية لعبت دورا في رسم الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية من الأردن حيث أن المملكة الأردنية الهاشمية تظهر مهندسة جغرافيا وسياسيا وهو ما يعرف بالموقع الجيوسياسي . وفي ظل كل المعطيات التاريخية التي يبدو الحديث عنها مطولا أمرا بالغ الصعوبة فقد تمكن الأردن من الصمود, حتى جاءت اللحظة التاريخية التى عززت هذا الصمود لكي يعيش الأردنيون بسلام ورفاه اقتصادي رغم كل ما يحيط بهذا البلد من توترات وحرائق سياسية. ويأتى السؤال الصعب الذى يمكن طرحه على مائدة النقاش عن ماهية العوامل التي أتاحت لهذا البلد الفقير فى موارده الطبيعية الصمود في منطقة من أشد الأماكن سخونة على وجه الكرة الأرضية من الناحية السياسية , ناهيك عن قدرة حكوماته المتعاقبة على تعزيز الأمن الداخلي في ظل إضطراب الأمن الخارجي. ولعل من المفيد فى الإجابة على هذا التساؤل أن نضع تجربة تحويل منطقة العقبة وهى المنفذ البحري الوحيد للاردن, إلى منطقة اقتصادية خاصة باعتبارها أحد أبرز الإنجازات الاقتصادية في المملكة وباعتبار أن تنفيذ هذه التجربة بنجاحاتها نموذج يمكن أن يحتذى فى مصر, مع طرح قضية تنمية محور قناة السويس للنقاش. فحتى نهاية عقد التسعينات من القرن العشرين كانت العقبة ميناء صغيرا هادئا فيه القليل من النشاط, مقسم ما بين قطاع السياحة الذي يحتاج إلى التنمية والتطوير وبين المدينة الصغيرة التي تعاني من نسبة البطالة العالية المستمرة, حيث كانت بحاجة إلى صناعات جديدة ومصادر جديدة للوظائف. وعندما أطلق العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني مبادرة لتطوير العقبة مطلع العام 2000 لتغدو ملتقى ذا مستوى عالمي للأعمال, كان الأمر أشبه بحلم بعيد المنال نظرا لما يحيط بالمنطقة من توترات تبدو للمراقب عامل إعاقة وهدم للمشروع الطموح حاصة وأنها نقطة التقاء لمربع الحرائق في الشرق الأوسط فكيف تكون قادرة على جذب استثمارات بمليارات الدولارات بهدف توفير الوظائف للمجتمعات المحلية, وتطوير مهارات القوة العاملة والتحول إلى قوة اقتصادية دافعة للبلاد فقيرة الموارد الطبيعية. وفى تلك الأثناء طلب الملك عبدالله من المعنيين, وضع خطة شاملة متكاملة لتحويل العقبة إلى منطقة اقتصادية خاصة, وأوكل إلى مجموعة عمل مؤقتة وضع الأطر التشريعية والتنفيذية والقانونية للمشروع. والمثير أنه رغم الظروف الاقتصادية القاسية التى يعيشها الأردن تم إنجاز الخطة الرئيسية الشاملة في وقت قياسي, وفي فبراير 2001 أسست سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة التى تمكنت من تحقيق ما هو أبعد من أي هدف طoلpب منها تحقيقه. ففي عام 2006 بلغت قيمة الاستثمارات الملتزم بها في منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة إلى 7 مليارات دولار وهو ما يتجاوز كثيرا الهدف المبدئي بأن تصل قيمة الاستثمارات إلى 6 مليارات بحلول عام 2020. وباتت منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة مقصدا استثماريا وسياحيا عالميا على البحر الأحمر يرفد الأردن بمحرك تنموي, ويحقق الارتقاء بالمستوى المعيشي والازدهار والرفاهية للمجتمع ضمن اطار من التنمية المستدامة والشاملة. ويقول الدكتور كامل محادين رئيس سلطة العقبة الإقتصادية أن استقطاب الاستثمارات العالمية والإقليمية يتصاعد من خلال تهيئة بيئة منافسة وجاذبة عالميا لتحسين المستوى المعيشي والرفاة الاقتصادي للمجتمع لضمان التطوير المستمر القائم على اسس من الشفافية والاستخدام الامثل للموارد وتحقيق افضل النتائج. وأضاف أن سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة أصبحت من المناطق الجاذبة لكافة الاستثمارات حيث تنوعت تشريعاتها وقوانينها بحسب أطياف الرساميل القادمة إليه, وانسجمت بنحو يحقق لدى الطرف الآخر أهدافه. وأشار إلى أن المنطقة طرحت حزمة من القوانين رمت بمجملها إلى خدمة الشريحة المستثمرة معتمدة في ذلك على نضوج عناصرها ومواكبتها لاحتياجات سوق العمل وشرعت العقبة إلى الالتقاء مع أمزجة الرساميل بسياق المصلحة العامة وبما يخدم جميع العناصر المشاركة حتى أصبحت الآن تتمتع ببنية تحتية قد تصل إلى المثالية إلى حد كبير فهنا لا مجال لإغلاق الأبواب أمام أية جهة قادمة ترغب في وضع مرساتها بجدية. وأوضح حمادين أن العقبة أبقت نفسها تحت مظلة نظام الأجواء المفتوحة وتمتعت بمفردها نسبة إلى المدن المحيطة بهذه الخاصية, حتى يتسنى لها إكمال الصورة والمضمون اللذين يؤديان إلى اعتلائها زاوية أساس مهمة للأنشطة الاقتصادية بمعناها العام, وجاء الحراك النوعي واضحا في هذا السياق حيث ارتفعت أسقف مناولات الحاويات وحركة اللوجستيات والرحلات الملاحية البرية منها والبحرية إلى نحو ملفت ما جعل من العقبة نقطة تواصل استراتيجية للمنطقة. ونوه رئيس سلطة العقبة الإقتصادية, إلى أنه إتساقا مع الدور الإجتماعى للإستثمار فإن سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة أطلقت عددا من المشروعات التي تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة للفئات الأشد فقرا في المجتمع المحل ,شملت بناء المدارس والمراكز الصحية وتحديث القائم منها وإعادة تأهيلها, وبناء مشروع سكني للفئات الأكثر احتياجا وهما يوفران من خلال العمل يدا بيد مع المجتمع المحلي, رؤية للازدهار في المستقبل للوطن بمجموعه. وبدوره يقول المهندس غسان غانم, رئيس شركة تطوير العقبة إن هذا المشروع يسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الأردن عبر تعزيز العدالة الاجتماعية وزيادة فرص العمل اللائق من خلال تحسين الامتثال للمبادئ والحقوق الأساسية في العمل وتطبيق تشريعات العمل الوطنية. وأضاف غانم أن المشروع يقدم مساعدة فنية لممثلي الحكومة والعمال وأصحاب العمل لإعادة تنشيط نظام تفتيش العمل وتعزيز المفاوضة الجماعية والتعاون في مكان العمل في منطقة العقبة الاقتصادية. فيما أوضح القنصل المصرى بالعقبة السفير محمد عليوة, أن ما تجب الاستفادة منه من تجربة العقبة هو ضرورة وجود مستوى عال من استقلالية اتخاذ القرار, ويصاحبه قدر معقول من رقابة السلطة المركزية. وقال عليوة إن ذلك لا يعنى غل السلطة يدها عن المنطقة التنموية بقناة السويس فالعقبة تتمتع بلامركزية كاملة ورغم ذلك من يعين رئيس سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة هو رئيس الوزراء ولها قوانين خاصة بها لكنها ليست بعيدة عن الإطار التشريعى العام, فضلاعن منحهم القدرة على اتخاذ القرار المستقل والإنفاق من ميزانية خاصة بهم . وتلعب سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة دورا كمنظم ومشرع وتتمتع باستقلال مالي وإداري, بينما تؤدي شركة تطوير العقبة الحكومية دورا يحدد المخطط الشمولي للعقبة "مخطط جنسلر" والذي يشكل خارطة الطريق الذي تهتدي به السلطة لتنفيذ خططها التنموية لتحديد استعمالات أراضي تشغل شريط العقبة الساحلي والذي يبلغ طوله 27 كم بدءا من واحة أيله في الشمال (والتي ستضيف واجهة بحرية بطول 17 كلم) , مرورا بالمطر والمدينة الصناعية ومركز المدينة ثم منطقة الحفاير والشلالة ومرسى زايد الذي سيحل مكان الميناء الحالي, ومشروع سرايا العقبة ومرتفعات اليمانية والمطل وتالابيه وميناء الحاويات والركاب والمتنزه البحري والشاطي العام حتى المنطقة الصناعية في الجنوب. وتؤشر تجربة منطقة العقبة الإقتصادية الخاصة وما تحقق من نجاح أصبح جاذبا للإستثمار رغم الحرائق السياسية, إلى ضرورة صياغة رؤية جديدة لمحور قناة السويس, حيث سعت الحكومة الأردنية من خلال رؤيتها إلى بناء قاعدة عالمية لمراكز الخدمات اللوجستية والخدمات المساند الصناعات الصديقة للبيئة والشركات المصنعة لمواد البنية التحتية حيث يسمح المستثمر بتشغيل 70 قى المائة عمالة أجنبية ويمكن تجاوز هذه النسبة في بعض الحالات. ولعل الزائر لمشروع العقبة وما يضمه من عناصر يمكنه معرفة مقومات النجاح التى أتاحت لفكرة شبه مستحيلة أن تتحول إلى نموذج يحتذى , وأول هذه المقومات هو التزام الحكومة بالشفافية وتوسيع دائرة الحوار المجتمعى, لإقناع الشعب بجدوى المشروع, حيث واجه مشروع العقبة فى البداية انتقادات حادة أيضا من الشارع الأردنى. أما الأهم بين مقومات النجاح فهو العمل المخلص الدءوب وإعلاء مصلحة الوطن على أية مصلحة أخرى والعمل بروح الفريق الهادف للقفز على كل الظروف ومواجهة المخاطر وإتاحة الصفوف المتقدمة لمن يستحق أن يقف فى واجهة المشهد بغض النظر عن إنتمائه السياسى أو الدينى أو المناطقى.