أمام الرئيس محمد مرسي خياران لا ثالث لهما، إما أن يكون رئيسا لكل المصريين، أو أن يكون رئيسا لجماعة الإخوان المسلمين. وفي الإختيار الأول لابد ان يعيد الرئيس جسور الثقة التي انهارت بينه وبين طوائف الشعب المصري. وفي الاختيار الثاني على الرئيس ان يدفع ثمنا باهظا لتفكيك دولة بكل مؤسساتها، ومن الظلم له ولنا ان يكون بقاء الجماعة في السلطة على اطلال وطن. أقول ذلك وأنا اتابع المشهد المصري بعد أن دخل في حالة من العبثية التي تتعارض تماما مع كل ما قامت عليه الدولة المصرية الحديثة من الثوابت والأصول والأفكار. نحن امام محاولة واضحة وصريحة لتفكيك ثوابت هذه الدولة في كل مجالات الحياة، ولا أحد يدري هل يخضع ذلك لدراسات ومناهج في إدارة شئون الأوطان، أم انها محاولات عشوائية تفتقد الفكر والمنهج والدراسة. إن ابسط المعلومات في تاريخ هذا الوطن بل وفي تاريخ البشرية تقول ان مصر دولة قامت على نهر من اقدم الأنهار في العالم، وان هذا النهر اعطى للمصريين جوانب من الاستقرار والأمن والرخاء لم تتوافر للحضارات القديمة سواء تلك التي قامت على الصيد والقرصنة، أو تلك التي شهدتها ربوع الصحارى في أكثر من مكان. وهنا عرفت مصر ثلاثية البقاء والاستمرار وهي الدولة. والأمن. والاستقرار. لقد أعطت الدولة للمصريين صورة حضارية وسلوكية غير مسبوقة. وأعطى الأمن للدولة المصرية صورة من صور الالتزام والانضباط، أما الاستقرار فكان الطريق للوحدة والتعاون والتفاهم بين ابناء الشعب الواحد وكان هذا طريقهم للبناء. ولم يكن غريبا عبر فترات التاريخ المختلفة ان يوحد مينا شمال مصر وجنوبها وان تقام حضارة امتدت آلاف السنين وان تقوم في مصر دولة مركزية شهدت اقدم حكومة عرفتها البشرية بكل ما حمله ذلك من مظاهر التقدم الإنساني. إن أي إخلال بهذه المنظومة التاريخية يهدد بناء الدولة المصرية. إن مصر دولة قليلة الموارد الإقتصادية، ولهذا فإن الاستقرار من اهم عناصر بقائها. ومصر دولة نهرية ولهذا فإن ثوابت الدولة بكل عناصرها ومؤسساتها من الضمانات الأساسية لبقاء الحياة على ضفاف هذا النهر. ومصر دولة لا بديل لوحدتها أرضا وبشرا وكيانا لأنها كانت طوال تاريخها متعددة العقائد والأفكار والرؤى وكان هذا التنوع من اهم عناصر ثرائها. انا على يقين ان هذه البديهيات ليست بعيدة عن فكر الرئيس مرسي، فهو فيما أعلم متابع جيد للتاريخ، ومن هنا فإن امام الرئيس مجموعة من المواقف التي تهدد نجاح تجربته في الحكم لأنها تتعارض مع الكثير من الثوابت التي قامت عليها الدولة المصرية. هناك مخاطر كثيرة تهدد تجربة الرئيس.. أولا: إن الرئيس لم يخرج حتى الأن عن ثوابت جماعة دينية لها كل التقدير على المستوى الديني، ولكنها ليست اكثر من فرع صغير في شجرة عريقة، وعليه ان يتابع كل احوال الشجرة. منذ تولى الرئيس مرسي رئاسة مصر وهناك حالة من الانقسام الداخلي تهدد كل شيء وللأسف الشديد ان الرئيس نفسه يتحمل مسئولية ذلك فقد جلس في مؤسسة الرئاسة وحوله بعض الحواريين من المستشارين ولم يسمع صرخات شعبه ومعاناته. ثانيا: إن الرئيس اصدر مجموعة كبيرة جدا من الفرمانات والقرارات والقوانين التي جاءت خارج السياق وتم التراجع عنها ابتداء بالإعلان الدستوري وانتهاء بقانون الانتخابات الذي رفضه القضاء المصري، وقد كان ذلك سببا في اتساع مناطق الخلاف بين المواطنين ومؤسسة الحكم مع رفض شعبي جارف لهذه القرارات التي افتقدت الدراسة. ثالثا: ترتب على حالة الانقسام وعشوائية القرارات حالة انقسام حادة في موقف مؤسسات الدولة ومنها القضاء والإعلام والشرطة، ولا شك ان ذلك يمثل تهديدا لثوابت الدولة، خاصة ما يتعلق بالأمن والعدالة. وقد ترتب على ذلك انقسامات حادة داخل هذه المؤسسات ومنها انقسام الشارع المصري بكل طوائفه. إن الرئيس مرسي يعتمد في مواقفه على شرعية الصندوق، وهذا صحيح وكلنا يحترم هذه الشرعية، ولكن هناك شرعية أخرى ينبغي ألا تتعارض مع شرعية الصندوق، وهي قدسية الثوابت وهي تتجاوز في اهميتها وخطورتها كل ظواهر الديمقراطية بما فيها الانتخابات. حين يرى الرئيس انقسام شعبه بهذه الصورة وهذا الانفلات الذي وصل بنا إلى حالة من الفوضى لم تشهدها مصر من قبل هنا يجب ان نتساءل. وما هي قيمة شرعية الصندوق؟! وحين يسمع الرئيس ويشاهد إضرابات رجال الشرطة ومطالبهم العادلة في حياة كريمة وأساليب عمل آمنة ولا يتخذ موقفا فهو يشارك ولو بالصمت في تفكيك منظومة أمنية مهما تكن تحفظاتنا على أدائها إلا انه لا احد يمكن ان يتحمل مخاطر مغامرة إلغائها أو تدمير قدراتها. وحين يتابع الرئيس ما يحدث في السلطة القضائية من الصراعات والتفكك وفقدان الهيبة امام حكومة لا تقدر دور القضاء وقدسيته فإن جدارا خطيرا من ثوابت الدولة ينهار امامنا ونحن متفرجون. وحين تغلق مؤسسة الرئاسة أبوابها امام مطالب شعبية صارخة بتغيير الحكومة وبعض المواد في الدستور وقانون جديد اكثر شفافية للانتخابات ومشاركة فعلية في سلطة القرار. حين ترفض سلطة القرار مجرد السماع لهذه المطالب فإن ذلك إهدار لقيمة المشاركة والديمقراطية الحقيقية وشرعية صندوق الانتخابات. ان أبسط قواعد العمل السياسي هو الرد على اصوات المعارضة وحين يقف د. يونس مخيون رئيس حزب النور امام الرئيس ويطالب بتوزيع عادل للسلطة ويؤكد ان اخونة الدولة المصرية قد عينت 13 الف موظف إخواني في ستة أشهر فهذا كلام يحتاج إلى رد وتوضيح من الرئيس مرسي نفسه للرأي العام. وحين يرى الرئيس مرسي وزارة مهمة وخطيرة مثل وزارة الداخلية وهي تتعرض لحصار رهيب وعملية تفكيك مقصودة ومدروسة سعيا لإنشاء أمن بديل وميليشيات مسلحة وجماعات للأمن الخاص فهو بحكم سلطته ومسئولياته لابد ان يرفض ذلك تماما بل ويتخذ موقفا قانونيا ضد المطالبين بذلك. ان هؤلاء جميعا يحاولون إقناع الرئيس بأن الهدف من هذا الأمن الموازي هو حماية شرعيته في الحكم، وما هو الحل إذا تعارضت الشرعية مع بقاء الوطن نفسه. وماذا سيفعل الرئيس بالشرعية والصندوق إذا انهارت مؤسسات الدولة التي يحكمها. إن صمت الرئيس امام هذه الدعاوى لا يتناسب مع قدسية ومسئولية سلطة القرار، اكثر من مسئول ديني وحزبي خرج يتحدث عن إنشاء ميليشيات مسلحة على طريقة الحرس الثوري في إيران أو ميليشيات حزب الله والكتائب والدروز والسنة في لبنان، وكلها حملت مخاطر الحروب الأهلية في هذه الدول. لم يعد امام الرئيس مرسي إلا خيار واحد ان يترك جماعته تمارس دورها في الدعوة إلى الله وان تقوم بتوفيق اوضاعها القانونية في الدولة من حيث الدور والمسئولية والتمويل، وان يعود الرئيس لشعبه رئيسا لكل المصريين لأن التاريخ لن يحاسبه كمسئول عن جماعة ولكنه سيحاسبه كمسئول عن وطن.. والطريق مازال مفتوحا امام الرئيس.. - ان يفتح بصدر رحب ملف المصالحة الوطنية بلا حساسيات أو رفض أو قبول مسبق، وان يسمع صوت الشعب وهو ليس صوت جماعة الإنقاذ كما يفتيه الحواريون وليس كل من خرجوا إلى الشوارع بلطجية. انه صوت اهالي بورسعيد والمنصورة والسويس والإسماعيلية انها اصوات الثوار التي غابت وسط الضجيج وهم جميعا ليسوا عناصر مندسة كما كان النظام السابق يقول عن الإخوان المسلمين في يوم من الأيام. - على الرئيس ان يعلن صراحة كمسئول عن كل المصريين رفضه الكامل لهذه الدعوات الشاذة والمغرضة لإقامة مؤسسات موازية لأجهزة الدولة في الأمن والقضاء. ان صمت الرئيس امام هذه الدعوات يحمل آثارا سلبية كثيرة خاصة إذا وصل الأمر إلى إنشاء ميليشيات مسلحة للتيارات الدينية لأن ذلك يعني إنشاء ميليشيات لطوائف اخرى وهنا نفتح ألف باب للحرب الأهلية. - على الرئيس ان يرد على الإتهامات التي توجه للسلطة خاصة ما يتعلق بأخونة اجهزة الدولة وان يتخذ في ذلك قرارات حاسمة تؤكد رفضه لهذه الأساليب التي تسيء لحكمه وموقفه كرئيس لكل المصريين. - على الرئيس ان يواجه الشعب بكل الحقائق ولا يخفي عنه شيئا، لأن الناس تسمع تصريحات كثيرة من مسئولين في الدولة أو جماعة الإخوان المسلمين أو حزب الحرية والعدالة، وهذه التصريحات تسيء للرئيس في احيان كثيرة ان الشعب يريد ان يعرف حقيقة الموقف الإقتصادي. وما يحدث في الأمن. وما يجري في سيناء والمشروعات الوهمية التي يتحدث عنها الإعلام مثل بيع آثار مصر أو تأجيرها، وماذا وراء مشروع تطوير قناة السويس. ان هذا اللغط الذي يجري في مصر الآن يفتقد الدقة والشفافية، والمطلوب من رئيس الدولة ان يوضح الحقائق للناس وان يعيد جسور الثقة بينه وبين المواطنين وان يعيد الإحساس بالأمن للشارع المصري، ولن يكون ذلك إلا بالنزول للناس وسماع اصواتهم ومعاناتهم ومطالبهم. ان المصريين انتخبوا الرئيس محمد مرسي رئيسا ولم ينتخبوا مكتب الإرشاد أو قيادات الحرية والعدالة، وحين يجيء وقت الحساب سوف يحاسب التاريخ الرئيس مرسي ولن يحاسب غيره. ان اهم الأشياء في مواجهة الأزمات ان تسمع اطراف الصراع نفسها وان تتحاور حول افضل الوسائل للمواجهة، اما الرفض والعناد والرؤى الضيقة فهي اقرب الطرق للفوضى. من حق الرئيس مرسي بل من واجبه ان يسعى لإصلاح مؤسسات الدولة، ولكن ينبغي ألا يكون طرفا في تفكيكها وإنشاء مؤسسات اهلية بديلة، وما يطالب به البعض الآن يمثل تهديدا حقيقيا لكل ثوابت الدولة المصرية ويدفع بها إلى مستقبل غامض. اننا نحترم ونقدر شرعية الرئيس ومسئولياته ولكن حين يصبح هدف البعض تفكيك الدولة وتدمير مؤسساتها. هنا لا شرعية لشيء على الإطلاق. نقلا عن جريدة الأهرام