على أبواب الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المصرية، ينبغي أن ندرك أن الثورة لم تندلع بغتة، بل سبقتها إرهاصات، ومهدت لها أقلام وسواعد، أصبحنا في حاجة ماسة إلى استعادتها الآن، والاستفادة منها في سبيل الحفاظ على "قوة الدفع الثوري" إن ضعفت، واستلهام روحها إن وهنت، والإيمان الكامل بأننا لن نتخلى عنها حتى يتحقق كامل أهدافها مهما كلفنا هذا من تضحيات. ولحظة البداية كانت حين بدأ رجل القانون ووزير التعليم الأسبق المرحوم الدكتور حلمي مراد يتساءل في مطلع التسعينيات من القرن العشرين عن ثروات ابن الرئيس ووضع زوجته. كتب مقالين يحويان هذا الأمر على صفحات "جريدة الشعب" التي كانت تصرخ أيامها فاضحة الفساد المتصاعد في أركان السلطة وساحات المجتمع، لتعوض تراجع النبرة الحادة لجريدة "الوفد" بعد وفاة الكاتب الصحفي مصطفى شردي، ودخول فصيل من اليسار في مهادنة مع نظام مبارك بحثاً عن الدفء والأمان بعد اشتداد العنف المرتدي ثوب الدين على أيدي "تنظيم الجهاد" و"الجماعة الإسلامية"، أو اعتقاداً زائفاً بأنه يمكن التغيير من الداخل، أو سعياً وراء المنافع التي انهالت على بعض رموزه جراء التطبيع الكامل للعلاقة مع السلطة. وفي نهاية هذا العقد تحدث الأستاذ محمد حسنين هيكل في محاضرة له بالجامعة الأمريكية عن "التوريث" وانفتح باب الجدل، فخاضت جريدة "العربي" الناطقة بلسان "الحزب الناصري العربي الديمقراطي" غماره، واحتضنت كلمات ناقدة جريئة لعبد الحليم قنديل ومحمد حماد وعبد الله السناوي وغيرهم. ثم ظهرت الصحف والفضائيات الخاصة، فانفتح الباب على مصراعيه أمام العديد من الكتاب والمثقفين والنشطاء السياسيين ورموز الأحزاب وحتى المواطنين العاديين لتوجيه انتقادات لاذعة للسلطة، التي كانت حينئذ لا تلقي بالًا لما يقال وما يكتب، وكانت تتصرف دوماً على أساس القاعدة المضللة التي تقول: "يقولون ويكتبون ما يريدون، ونفعل نحن ما نريد". لكن الحروف المنطوقة والمرشوقة بدأت تؤتي ثمارها، إذ عمقت غضب الناس مع أهل الحكم، وأظهرت لكل فرد أنه ليس وحده الحانق والراغب في التمرد، وأن هناك من يشاركونه الغضب. فلما احتبس الغيظ في الصدور انفجر في لحظة تاريخية فارقة، فالتحمت القاعدة الشعبية بالطليعة الثورية، بعد أن ظلت سنوات تصرخ وتهتف معزولة في وجه السلطان كي يترجل ويرحل، حاملاً معه إخفاقه وعجزه وصلفه المزعوم. واليوم يشعر كثيرون على باب لحظة الاختيار بين مرسي وشفيق بأن الثورة تتسرب من بين أيدينا، ولكنني أقول لهؤلاء إن روح الثورة لا تزال حاضرة، وإن خبتت فإن استعادتها لن تحتاج، مع عالم "الفيسبوك" و"التويتر" والفضائيات المتدفقة، إلى زمن طويل مثل الذي استغرقه التحضير ليوم 25 يناير، بل يمكننا في ساعات قليلة أن نستنهض الهمم، ونشحن النفوس، ونحشد السواعد، وندفع القوى الثورية نحو استعادة ما فقدته، واستكمال ما بدأته. ولكن هناك من لا يريد أن يفهم هذا ويتمادى في طعن الثورة وتحميلها ما لا ذنب لها فيه. وفي الحقيقة فإنه لا يطعن الثورات إلا الانتهازيون، وبعدهم يأتي المتنطعون والمتعجلون إلى حصد الثمار، وأولئك الذين يروجون مزاعم لا أصل لها عن كونهم "الثوار الأنقياء" ويتهمون غيرهم بأنهم جهلة، لا يستحقون الحرية ولا الكرامة، ثم يمنون على الناس بما بذلوه من جهد في سبيل تحريرهم، وإخراجهم من أوضاعهم المزرية، وترقية معاشهم. وينسى هؤلاء أننا ظللنا سنوات بضع مئات نصرخ على سلالم نقابتي الصحفيين والمحامين ودار القضاء العالي وعند ضريح سعد زغلول ونقول "لا للتمديد... لا للتوريث" ولكن هذا الهدف لم يتحقق إلا حين نزل شعبنا العظيم بالملايين إلى الشوارع يوم 28 يناير سنة 2011، الذي اعتبره يوم الحسم، وكل ما جاء بعده هو من قبيل "تحصيل الحاصل". وهذا الشعب صوت في الانتخابات التشريعية لمن ظن أنهم سيكونون أمناء على مطالب الثورة ومبادئها، ثم منح مرشحي الثورة أغلب الأصوات في انتخابات الرئاسة، ولكنهم هم الذين لم يتوحدوا ولم يتفقوا، وتغطرس أغلبهم وركبهم الاستعلاء وتملكتهم الأنانية المفرطة ولم يروا سوى مصالحهم الصغيرة الضيقة، ونسوا أنهم ما كان لهم أن يجدوا هذه الفرص أبداً لولا ثورة ضحى فيها شباب أوفياء بأعز ما وهبهم الله من أجل أن تولد مصر أخرى جديدة، وحمل أمثالهم مسؤولية تحقيق حلمه، فخذلوه الآن، وليتهم يتعلمون من هذه التجربة المريرة، فيوحدون صفوفهم، ويعالجون أخطاءهم، ويتحلون بفضيلة إنكار الذات، فيصدون ويردون أي سلطة قادمة تريد أن تستبد بنا، وتعيدنا إلى ما كنا عليه قبل أن تنطلق الطليعة الثورية الواعية، لتفتح الباب كي يعبر منه الشعب إلى الحرية. أيها المتعجلون في اتهام الشعب، راجعوا الأرقام التي صنعها التصويت في الانتخابات، لتروا كيف اتجهت؟ ولمن؟ ولماذا؟ وقدروا أن هناك شيئاً غير عادي قد جرى، تزوير أو تزييف، ليس هذه المرة بتبديل الصناديق وتسويد البطاقات ومنع الناخبين من الوصول إلى مراكز الاقتراع وإنما بطريقة ناعمة، قد تكون إعطاء حق الانتخابات لمن لا حق لهم، أليست هناك شائعات تدور حول هذا؟ وهناك معلومات يتم تداولها، وشهادات فردية عزلاء، إن جمعناها قد ترسم لنا الصورة كاملة، وتؤكد أن العجلة في اتهام الشعب بالتفريط في ثورته أمر عارٍ تماماً عن الصحة. وفي ركاب هذا ادرسوا جيداً ظروف الناس الذين أجبرهم العوز والأمية على أن يفعلوا ما فعلوا، بعد أن أفقرهم الطغاة، وانطلت عليهم الدعاية الرخيصة بأن هذا هو طريق الخلاص. إننا ينبغي ألا نفقد الثقة في شعبنا أبداً، ولا نظلمه، فقد امتلك قراره، وكلي ثقة في أنه سيرمم الشروخ، ويرتق الثقوب، ويتجنب العيوب، ويتقدم بمرور الأيام نحو الأفضل ولو كره الفاسدون والمستبدون والانتهازيون. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية