زيارة الرئيس حسني مبارك لباريس في اليوم الأول من أغسطس الحالي كانت لافتة لأنظار المراقبين في العاصمة الفرنسية لأسباب معلنة ولأسباب غير معلنة. فالمعلن هو خصوصية اللقاء بين الرئيسين, نظرا لأنه كان اللقاء الأول لهما منذ تولي ساركوزي سدة الحكم في فرنسا.. والمعلن هو اتفاق الطرفين علي ضرورة التواصل في العلاقات المصرية الفرنسية, التي شهدت نقلة نوعية في عهذ الرئيس السابق جاك شيراك, ليس فقط علي مستوي العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية, ولكن أيضا علي المستوي الشخصي بين الرئيسين مبارك وشيراك. والمعلن أيضا اكتساب العلاقات الاقتصادية بين البلدين في الآونة الأخيرة اتساعا, بل طفرة مثيرة, نظرا لتزايد حجم الاستثمار الفرنسي في مصر من ناحية, ولدخول الغاز المصري لأول مرة علي خط العلاقات التجارية بين البلدين, ليقفز بها من خانة الملايين إلي خانة المليارات. والمعلن أخيرا هو دخول الاستثمارات الفرنسية إلي مجالات تلمس الحياة اليومية للمواطن المصري من مترو الأنفاق من الجيل القديم والجيل الحديث إلي أسواق بيع البضائع والمنتجات ذات الماركات الفرنسية المعروفة عالميا, مثل مترو دكارفور هذا دون الحديث عن الاستثمارات الفرنسية في مجال الاتصالات اللاسلكية الذي يعتبر ثورة بالفعل في العلاقات الاقتصادية بين البلدين, بدخول شركة الاتصالات القومية الفرنسية فرانس تيليكوم باستثمارات أكثر من70% من رأسمال إحدي الشركات المصرية الشهيرة في مجال التليفون المحمول. كل هذا المعلن الإيجابي في العلاقات المصرية الفرنسية جعل من سرعة التغيير السياسي الذي أحدثه انتقال السلطة في الإليزيه مفتاحا شديد الأهمية ولكن شديد الحساسية لتغيير سرعة العلاقات للانطلاق بها إلي مستويات أعلي بمحطات جديدة ومهندسين جدد, بل ديكورات جديدة أيضا. كان تغيير السرعة هو غير المعلن في اللقاء المهم الرئاسي المصري الفرنسي, والواقع أن الأجندات المقبلة تكاد تفرضه فرضا, كما أن الحضور البارز لجيل جديد من الوزراء في الجانبين وهو ما سوف نفصله جعل التفاهم واستخدام لغة المصالح والبراجماتية معالم جديدة في العلاقات المقبلة بين مصر وفرنسا في المرحلة المقبلة. أجندة الشرق الأوسط: بالنسبة للأجندات, فإن ساحة الشرق الأوسط ستكون حسب المراقبين في العاصمة الفرنسية الملعب المقبل للرئيس نيكولا ساركوزي هو أن تخلص بمهارة شديدة من مشكلة الممرضات البلغاريات في ليبيا, وكان فك أسرهن إحدي وعوده الانتخابية. ولا يخفي علي أحد أن غياب توني بلير والشعبية الصاعدة لساركوزي في أوروبا بشكله وأسلوبه واندفاعه وحرصه المعلن والمتكرر علي أمن إسرائيل يجعل منه في نظر الولاياتالمتحدة وأوروبا لاعبا من الطراز الأول في ساحة التعقيدات الإسرائيلية الفلسطينية, والإسرائيلية العربية بشكل عام. ولعل اللقاء الذي تم بين بوش وساركوزي في عطلة الأسبوع الماضي في الولاياتالمتحدة, والتركيز الإعلامي الأمريكي عليها يبين الدور المقبل لفرنسا ساركوزي في ساحة الشرق الأوسط مع الاستعدادات لقمة السلام الأمريكية المرتقبة, وهي قمة ستدعو إليها الولاياتالمتحدة أطراف عملية السلام أصبح من المؤكد حضور ساركوزي لها, ولعل أسباب بوش في دعوته شخصية أكثر منها موضوعية, فالرئيس الأمريكي سيكون في أمس الحاجة للزخم الإعلامي لنابليون فرنسا الجديد من أجل إنجاح المؤتمر والخروج بنتائج تنقذ ماء وجهه الذي أريق في أرض العراق, وهو علي مشارف الخروج من البيت الأبيض. عربة الوزراء الجدد في قطار العلاقات: المقصود بالوزراء الجدد ليس تولي وزراء جدد لحقائب في مصر أو فرنسا, بل عقلية جديدة في التعامل الوزاري مع الملفات السياسية والاقتصادية ليس فقط في مصر, بل في فرنسا أيضا. فقد كان حضور الوزيرين رشيد محمد رشيد ومحمود محيي الدين لافتا في الإليزيه, خصوصا في قصر ماتينيون, وهو مقر رئاسة الوزراء في فرنسا, فهما يتميزان بلغة براجماتية هاجسها الوحيد هو التوصل لنتائج عملية, وهو الهاجس نفسه عند وزراء فرنسا الجدد وعلي رأسهم وزيرة الاقتصاد مدام كريستين لاجارد. ومن المؤكد أن تصعيد سرعة قطار العلاقات المصرية الفرنسية تقوم أساسا علي تطوير الاستثمار الفرنسي في مصر من ناحية, وتفاهم سياسي حول الشرق الأوسط من ناحية أخري, وهو ما يدركه السياسيون في البلدين إدراكا واعيا ناضجا, وهو ما يجرنا إلي غير معلن آخر شديد الأهمية وشديد الحساسية. من محطة العواطف إلي محطة المؤسسات: لعل أهم ما لم يعلن عنه في زيارة الرئيس حسني مبارك الأخيرة لباريس هو التقاط الرئيس مبارك للرسالة القادمة من باريس بعد رحيل شيراك ومعرفته أن الوقت قد حان للدخول بالعلاقات المصرية الفرنسية في مرحلة المؤسسات التي تعطيها استقرارا مطلوبا ولا غني عنه, وتبحث لها عن الوسائل الضرورية لتطوير التعاون في المجالات المختلفة, وهو ما أطلقنا عليه منذ قليل إنشاء محطات جديدة في طريق قطار العلاقات. فقد لعبت محطة العلاقات الشخصية والعواطف دورا كان ضروريا في الفترة الماضية, وأسهم كثيرا في تعزيز التعاون المصري الفرنسي, خاصة في المجال السياسي, أما الآن, فقد جاء الوقت لأن تنضج هذه العواطف لتدخل مرحلة عقلانية تفرضها طبيعة المرحلة ويفرضها أسلوب الجالس الجديد علي عرش الإليزيه, بل تفرضها الطفرة الاقتصادية المصرية, وتفرضها كما أشرنا إليه براجماتية وزراء تخلصوا من أوهام قديمة ويسعون بسرعة في البلدين إلي تعلية البنيان المصري الفرنسي بشكل يخدم مصالح البلدين والشعبين. ويري المراقبون في العاصمة الفرنسية أن تركيز رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس وزرائه فرانسوا فيون علي حكمة وتجارب الرئيس مبارك في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط وفي التعامل مع العلاقات المصرية الفرنسية. يعني أن النضج السياسي للرئيس وخبرته الطويلة قد استوعبت متغيرات المرحلة, وهي في كل الأحوال متغيرات لا تمس أي شيء في ثوابت السياسة الخارجية لكل من البلدين. فهذا النضج السياسي المصري يستحق الآن من وجهة نظر المهتمين بالعلاقات المصرية الفرنسية أن يؤسس لها أو ما يطلق عليه بالفرنسيةinstitutionnalisation. زيارة ساركوزي القادمة لمصر والتخلص من أوهام الصالون: لعل أهم بوادر التأسيس للعلاقات المصرية الفرنسية وكانت قد بدأت بمبادرة من الرئيس مبارك والرئيس السابق شيراك, هو إنشاء المجلس الرئاسي المصري الفرنسي, ولكنه خطوة أولي في طريق تغيير سرعة القطار ولن يستطيع التحرك بفعالية دون وجود لوبي مصري فعال في فرنسا, ودون استغلال ذكي للخصوصية الثقافية في العلاقات بين البلدين. فلابد من تجاوز ما يمكن أن نطلق عليه عقدة أو أوهام الصالون في العلاقات المصرية الفرنسية, وهي أوهام فرانكفونية بورجوازية مصرية انتهي زمانها, وكان لها دور إيجابي مشهود في ساحة بزوغ الوعي القومي والثقافي المصري, ولم يعد لها اليوم في عالم العولمة مكان, بل ان الفرنسيين أنفسهم أصبحوا واقعيين ويعترفون بأن الفرانكوفونية لم تعد همهم الأول, ويفضلون عليها الفرانكوفيليه, أي عشق فرنسا وثقافتها وحضارتها, دون الحاجة بالضرورة للتحدث باللغة الفرنسية. وفي هذا الإطار الجديد تماما في العلاقات المصرية الفرنسية تأتي الزيارة المقبلة للرئيس ساركوزي لمصر, وهي زيارة من المقرر أن تتم في يناير المقبل, ربما في أوائل يناير بمناسبة حدث ثقافي كبير, وربما في نهايته بمناسبة عيد ميلاد الرئيس(28 يناير1955), وهي في كل الأحوال زيارة قد تكون حسب المهتمين بالعلاقات المصرية الفرنسية في الجمعية الوطنية الفرنسية إشارة انطلاق لقطار العلاقات المصرية الفرنسية بسرعة أعلي حتي ولو كان القطار نفسه ينطلق علي القضبان نفسها.