لم يحقق "الربيع العربي" أهدافه الأولية إلا في ثلاثة بلدان هي تونس ومصر وليبيا. في الحالات الثلاث تمت الإطاحة برأس النظام غير أنه سرعان ما اتضح أن بناء الجديد المنشود أمر في غاية الصعوبة، ولعل ذلك يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى عدم وجود قيادة موحدة معترف بها لعملية التغيير، ولذلك فإن " الثورة" لم تتول السلطة منذ البداية -ربما باستثناء الحالة الليبية- ولذلك كان يتعين أن تكون هناك سلطة انتقالية بشكل أو بآخر. وقد أفلتت تونس وحدها حتى الآن بنجاح الخطوات الأولية في بناء "دولة الثورة"، إذ وضعت أولوياتها على نحو سليم: وضع الدستور الجديد ثم إقامة مؤسسات الدولة بناءً على ذلك، وجرت انتخابات الجمعية التأسيسية لوضع الدستور على نحو مثالي، ثم أظهر الحزب "الإسلامي" الفائز بالأغلبية وهو "حزب النهضة" عقلانية سياسية واضحة كان آخر مظاهرها توزيع رئاسات الدولة الثلاث: الوزراء والجمهورية والجمعية التأسيسية على مكونات تحالف الأغلبية (النهضة/ المؤتمر/ التكتل الديمقراطي) نافيّاً بذلك أية نية في احتكار السلطة. ولعل تونس قد وصلت إلى ما وصلت إليه بعدم التعجل في الخروج على دستور ما قبل الثورة، فقد قبل الثوار رئيساً للجمهورية يعتبر من "فلول" النظام القديم -بتعبير ثوار مصر- وهو ما يعكس حالة من الثقة بالنفس في أن الثورة قادرة على تصحيح المسار في أي وقت. أما في مصر فقد تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية، ولأن المهمة جاءته على غير توقع، ولأن خبرته السياسية محدودة فقد أقدم على ممارسات باعدت بينه وبين بعض القوى الثورية بالتدريج على رغم دوره المشرف في حسم الموقف لصالح الثورة، ذلك بالإضافة إلى وجود فئات من "المراهقين الثوريين" حاولت قدر طاقتها من خلال شعارات "زاعقة" وممارسات غير منضبطة أن تزيد من هذا التباعد وتفاقم أزمة الثقة بين المجلس وبعض قوى الثورة، ولاشك في أن قوى النظام القديم قد قامت بدور يعتد به في هذا الصدد، ومن هنا بدأت مصر تعاني على نحو مقلق من عدم استقرار متزايد. ويضاف إلى ما سبق أن الأولويات قد وُضعت في بدايات الثورة من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة بطريقة مقلوبة: الانتخابات البرلمانية أولاً ثم وضع الدستور ثم الانتخابات الرئاسية، مع أن هذا الدستور الجديد يمكن أن يغير من قواعد تشكيل البرلمان مما يحتم إجراء انتخابات برلمانية جديدة، وقد يأخذ هذا الدستور الجديد بالنظام البرلماني فلا تكون هناك انتخابات للرئاسة أصلاً. ولما كان المجلس التشريعي المنتخب هو المكلف وفقاً للإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانتخاب الجمعية التأسيسية للدستور فقد بدأ القلق يساور عناصر "النخبة المدنية" من إمكانية سيطرة "التيار الإسلامي" على الغالبية في المجلس التشريعي بما يفتح الباب لدستور يلبي رؤى هذا التيار دون غيره، ومن هنا كانت محاولات تلك النخبة التي وجدت لاحقاً صدى لدى مؤسسات الحكم في التطلع إلى وضع مبادئ ملزمة يأخذ بها واضعو الدستور، وهو ما رفضته فصائل "التيار الإسلامي" رفضاً مطلقاً بكل قوة طالما أنها ترى فيه قيوداً على حركتها المستقبلية، وقد كان آخر تجليات هذا الصراع هو الجدل الحاد الذي دار حول الوثيقة التي أعدها نائب رئيس الوزراء بخصوص هذه المبادئ الدستورية العامة، وصولاً إلى التظاهرات الحاشدة في الجمعة الماضية التي فتحت الطريق لمزيد من علامات عدم الاستقرار. تواجه الثورة الليبية وضعاً مشابهاً، فالمجلس الانتقالي بصدد الموافقة على حكومة مؤقتة يختارها رئيس الوزراء المكلف عبد الرحيم الكيب، وأمام هذه الحكومة مرحلة انتقالية حتى يونيو2012 حتى تجري انتخابات لبرلمان مؤقت يشرف على صياغة دستور ويطرحه للاستفتاء ثم يجري انتخابات، أي أن ليبيا أخذت بالنهج المصري بكل عيوبه. وفي المقابل ترى عناصر لها وزنها في النخبة الليبية كان لها دورها الرئيس في الثورة أنه يجب توسيع المجلس الانتقالي الحالي بزيادة عضويته من 51 عضواً إلى 130 أو 140 عضواً بحيث يكون ممثلاً لكافة ألوان الطيف السياسي الليبي بما في ذلك رؤساء الميليشيات المسلحة التي تشكلت في المدن الليبية إبان الثورة، ويكون من بين مهام المجلس في هذه الحالة اختيار لجنة لصياغة دستور جديد يُطرح للاستفتاء الشعبي، وبذلك يتكون البرلمان الجديد خلال ستة أشهر على سبيل المثال. ويمكن أن نقرأ بين سطور هذا المنطق تخوفاً مماثلاً لما هو موجود في مصر من أن ينفرد "التيار الإسلامي" بوضع الدستور وفقاً لرؤاه الخاصة. ويضاف إلى ما سبق حالة الانفلات الأمني التي تعاني منها البلدان الثلاثة. وإن كان الظاهر أنها انحسرت في تونس إلى حد بعيد، وقد يعني هذا أن العلاج الحقيقي للانفلات الأمني هو التقدم على طريق البناء السياسي الجديد. أما في مصر وليبيا فما زال الوضع مأزوماً، وفي مصر ساعد هروب المساجين في بداية الثورة، وانتشار السلاح المهرب على نطاق واسع، والتحريض على الانفلات سواء من عناصر تنتمي للنظام القديم أو من عناصر خارجية مما أدى إلى وصول حالة الانفلات أقصاها. أما في ليبيا فقد كانت الثورة مسلحة أصلاً، ومن ثم فإن السلاح منتشر بكثافة في أيدي عناصر لعبت دوراً في الثورة ولم يتم استيعابها بعد في المؤسسة الأمنية أو في القوات المسلحة، وذلك بالإضافة إلى وجود قاعدة قبلية قوية للقذافي يمكن أن تكون مصدراً لعدم استقرار مزمن خاصة بالنظر إلى الطريقة التي أنهيت بها حياة القذافي. ويقال كثيراً إن حالة الانفلات الأمني هذه سمة من سمات الثورات عموماً، وإنها تدوم عادة لسنوات طويلة، لكن هذا ليس صحيحاً على إطلاقه، كما أن هذا القول لا يعني أن الانفلات الأمني أمر يجب قبوله ببساطة. وتنفرد ليبيا بانقسام جيشها إبان الثورة عكس ما حدث في تونس ومصر حيث حافظ جيشا البلدين على تماسكهما مما مكن المؤسسة العسكرية من أن تلعب أدواراً مؤثرة في المرحلة الانتقالية. وبينما بقيت قيادة الجيش دون تغيير في البلدين فإن الأنباء قد حملت في نهاية الأسبوع الماضي إخفاق اجتماع حضره ما بين 200 و300 ضابط وجندي من الجيش الليبي في النظام السابق بالإضافة إلى عشرات من قادة كتائب الثوار، وكان الهدف من الاجتماع هو اختيار رئيس أركان جديد للجيش الليبي، غير أن الخلافات بين ضباط الجيش وجنوده من ناحية وبين قادة كتائب الثوار من ناحية أخرى أدت إلى ذلك الإخفاق الذي يشير إلى مشاكل حقيقية في إعادة بناء أو إعادة تنظيم الجيش الليبي. والمشكلة أن الحالتين المرشحتين للحاق بتونس ومصر وليبيا وهما اليمن وسوريا تتوافر فيهما مقومات الأوضاع المأزومة نفسها التي واجهتها الثورات في تلك البلدان الثلاثة، ويعني ذلك أن كلاً من اليمن وسوريا مرشح لمعاناة الأعراض ذاتها التي عانت منها البلدان الثلاثة وإن بدرجات متفاوتة، وهو ما يعني أن بعض حصاد "الربيع العربي" على الأقل حصاد مر، وأن النجاح في الإطاحة برأس النظام لا يعني نهاية المطاف بالنسبة للثورة، وإنما بداية طريق جديد مليء بالعقبات والعثرات ويحتاج إلى تكاتف جهود المخلصين من أجل اجتيازه. نقلا عن صحيفة الاتحاد