تطلب منا رواية النظام الحاكم في سوريا تصديق أن عشرات الآلاف من الجماعات الإرهابية المسلحة قد دخلت في أنحاء المدن الرئيسية في البلاد، وأن هذه الجماعات ظلت تروع وتقتل المواطنين السوريين طيلة خمسة شهور، الأمر الذي يدفع الحكومة إلى التدخل بقواتها العسكرية من أجل مواجهة تهديد الإرهابيين وفرض الأمن في الدولة . لا يوجد من يصدق هذه الرواية البلهاء، ويفشل النظام الذي يقوده بشار الأسد في احترام عقلية الغالبية من الشعب السوري حين يستمر في الاعتقاد أن التوصيف الملفق للأوضاع المحلية في الدولة سينطلي على الملايين من السوريين الذين تعرف عنهم صفات سعة الأفق والالتزام الوطني وضبط النفس . إن الحالة المضطربة السائدة في القطر السوري لا تخلو من المتناقضات . في الوقت الذي نريد الاعتقاد أن بشار الأسد ينبغي أن يكون الأكثر استعداداً من بين الزعماء العرب للمبادرة بإجراء الإصلاحات السياسية المطلوبة وذلك نظراً لانتمائه إلى فئة القيادات الشابة المتوقع أن تبدي الاستعداد الطبيعي للإصلاح، فإن واقع الأمر يقول إن نظام حكمه لا يقل عن الزعامات المسنة في ليبيا واليمن من حيث التعنت في رفض التطوير السياسي، والتصلب في الاستجابة لمطالب الشعب، والشراسة في إخماد الحراك الوطني نحو الانتقال إلى مرحلة الإصلاح السياسي . لقد ظل بشار الأسد يقدم تصويراً زائفاً للأوضاع في سوريا، ولم ينجح هذا التزييف في تحقيق أي شيء سوى في نسف صدقية النظام الحاكم، واستمر يصرّ على استخدام القوة العسكرية المفرطة من أجل خلخلة ووأد الثورة الشعبية، ولم تثمر هذه القوة عن أي شيء سوى القضاء على شرعية النظام الذي يقوده في اعتبارات كل من الشعب والمجتمع الدولي . كيف يمكننا أن نجمع بشكل منطقي بين إصرار بشار الأسد على أن بلاده تواجه غزواً إرهابياً من جهة، وبين وعوده بأن حكومته تعمل على تقديم إصلاحات ديمقراطية من جهة أخرى؟ لا يمكن تلمس ارتباط معقول بين الأمرين، بل ان عقلية النظام الحاكم التي الصقت تهمة الارهاب المزعوم بالشعب لا تبشر على الإطلاق بصحة الاعتقاد أن هذا النظام مقبل على إجراء أية إصلاحات سياسية حقيقية يعتد بها الشعب . إن تكرار بشار الأسد لثنائية مواجهة “ الجماعات الإرهابية” التي تجتاح سوريا وأكاذيب “الإصلاح الموعود” قد أضرت بصورته الشخصية ومكانته القيادية بشكل قد تجاوز الإنقاذ، وغدت العودة إلى سابق عهد المنزلة التي كان يتمتع بها أمراً مستحيلاً . إن السرد الصحيح للأحداث في سوريا والذي كان يتعين على الطبيب بشار الأسد أن يؤمن به هو أن هناك أربع حالات من الثورات الشعبية في العالم العربي وأن الحالة السورية هي الحالة الخامسة، وأن أنماط الحكم المطلق وأساليب الاستبداد الفردي قد أضحت في طور الإزالة أو الإصلاح في أقاليم الوطن العربي وليس نظام بشار الأسد استثناء من هذا التوجه القوي . لقد فاتت فرصة أن يقتنع الرئيس الأسد بالحقائق الفعلية التي تسود في سوريا، وذلك بعد أن قطع شوطاً طويلاً جداً في التعالي على الواقع والتشبث بمحاولة فرض التصوير الكاذب لما يدور في الساحة الداخلية . لقد أمهلت الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، الرئيس السوري فرصة واسعة لاستخدام المعالجات العسكرية للتعامل مع ثورة الشعب لعله ينجح في إخمادها، إذ إن اسقاط نظام الأسد ليس أولوية لدى هذه الدول، وسمحت له لذلك بالتحول إلى طبيب شرس . وتباطأت واشنطن والعواصم الأوروبية في الضغط على نظام الأسد حتى بعد أن اتضحت التكلفة البشرية الكبيرة بين صفوف الشعب السوري نتيجة العنف العسكري الذي استخدمه النظام، ولم تأت المطالبات الدولية بتنحي بشار عن سدة الحكم إلا متأخرة ومترددة . وليس من الواضح فيما إذا كان انتقال المسألة السورية إلى الأممالمتحدة سيثمر عن قرار دولي فاعل ضد دمشق في ضوء الشكوك حول مدى صرامة موسكو وبكين والأوروبيين في هذا الصدد . إن المسألة السورية شديدة التعقيد، ويبدو أن الأسد يميل إلى تأويل هذا التعقيد في صورة انتهاز كافة فرص استدامة نظامه وبأي ثمن عسكري وإنساني يمكن أن يفرضه على شعبه . لم يحقق بشار الأسد الإصلاحات السياسية المطلوبة كمبادرة خلال السنوات العشر منذ توليه مقاليد الحكم، ولم يعمد إلى إجراء هذه الإصلاحات الملحة كإجراء استباقي بعد أن رأى أنظمة حكم الاستبداد المماثلة تتهاوى في كل من تونس ومصر، وهو أيضاً لم يسارع إلى تحقيق الإصلاحات السياسية كاستجابة صادقة بعد أن خرجت جماهير الشعب السوري إلى الشوارع والساحات العامة مطالبة بحقوقها السياسية والإنسانية التي يصر النظام على حرمانهم منها بكافة الوسائل . عوضاً عن ذلك، يرى بشار الأسد أن واجبه يتحدد في تدعيم أركان نظام حكمه المستبد بالشكل الذي يضم استدامته استكمالاً لنظام والده حافظ الأسد، ولعله لا يرى في الثورة الشعبية الحالية سوى اختبار لحزبه وقيادته يتعين عليه النجاح في اجتيازه بأي ثمن، تماماً كما نجح والده في اجتياز اختبار الشرعية الشعبية الذي واجهه ونجح في إخماده قبل نحو ثلاثين عاماً . وربما يذهب خيال بشار الأسد به إلى تصور أنه على الرغم من الثمن السياسي الباهظ الذي قد يتكبده في سعيه إلى إخماد الثورة الشعبية الحالية، فإن المردود الذي قد يجنيه في المقابل يعد جذاباً للغاية بالنسبة له شخصياً، ويتمثل تحديداً في إمكانية تمسكه بزمام السلطة والحكم على مدى الثلاثين سنة المقبلة . هل سينجح الطبيب الشرس في معالجة الأسد الجريح؟ إن الإجابة تعتمد على مدى قوة إرادة الشعب السوري من جهة، واستعداد المجتمع الدولي لمنح النظام الحاكم في دمشق الفرصة للقيام بذلك . إن فقدان الصدقية والشرعية تجعل إصابة الأسد مميتة، والمعضلة هي أن الطبيب بشار الأسد لا يزال يعتقد أن العلاج يتمثل في استخدام المزيد من العنف ضد الشعب السوري، الأمر الذي يفاقم بالتالي جراح نظام الأسد . نقلا عن صحيفة الخليج