يُحمد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن أصدر إعلانه الدستورى من دون استدعاء دستور 1971، المعاب والذى سقط بنجاح ثورة شعب مصر الفل. وقد تفادى المجلس هكذا شبهة العوار الدستورى فى نشأته وممارسته للسلطة العليا فى البلد، والتى لم يكن لها محل فى الدستور البائد. إلا أننا نرى فى هذا الموقف تأكيدا على أن الشعب هو مصدر السلطات جميعا، وأن المجلس يحكم، وأصدر الإعلان الدستورى نفسه، انطلاقا من الشرعية الثورية لشعب مصر. وبناء عليه فليس من حق المجلس الوصاية على الشعب أو الثورة، وإنما هو يستمد شرعيته، وسيكتسب مكانته فى تاريخ مصر، من مدى رعاية ثورة شعب مصر، وحمايتها وضمان نيل غاياتها، وينبغى أن يكون له فى جيش تونس الذى أسلم الحكم لإدارة مدنية انتقالية دعت لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، ووضعت مناضلا حقوقيا مدنيا على رأس وزارة الداخلية مؤخرا أسوة حسنة. ومن أسف أن المجلس لم يرق إلى سلوك هذه الحالة المثال، وبدا فى أحيان وكأنه مصمم على فرض وصايته وإرادته على الشعب، ولا يقبل نصحا أو اعتراضا. وإن كان مجمل تصرفاته قد انتهى إلى جادة الصواب، فقد كانت بعض التصرفات تشى بأن المجلس لا يستسيغ الحكم الديمقراطى الصالح، ولا يريد أن يقطع مع النظام الذى أسقطته ثورة شعب مصر، وإنما يصمم على مسعى مستحيل لمصالحة الثورة مع النظام التى قامت لاسقاطه ولو قسرا، كما وقعت حكومة تسيير الأعمال فى الخطأ ذاته، كما فيما يسمى «الحوار الوطني». ولا نريد أن نرجع هذا الود المفقود مع الحكم الديمقراطى الصالح، والرغبة فى تصالح الثورة مع نقيضها، إلى كره أصيل لدى العسكريين للديمقراطية بطبيعة التكوين والممارسة القائمة على السمع والطاعة فى المؤسسة العسكرية، إضافة إلى التقدم فى العمر وعواقبه الحتمية. ولكننا نتفهم أن يكون هذا طابع العسكريين المحافظين بالسليقة وبالانتماء للنظام السابق ولرئيسه الذى كان قائدهم الأعلى لسنين طويلة. ولكن يبقى الأمل فى أن ينجح المد الثورى التحررى الغالب فى هذه اللحظة المبهرة فى تاريخ مصر فى إقناع المجلس بتجاوز هذه العيوب التقليدية فى كبار العسكريين عندما يتصدون لمهمة الحكم المعقدة، لاسيما أعقدها أى قيادة التحول من الحكم التسلطى إلى الحكم الديمقراطى الصالح، والتى لم يؤهلهم تعليمهم أو خبرتهم العسكرية لها، والتى نجح الجيش التونسي، مرة أخرى، فى تخطيها. ولنعد للإعلان، لأهميته الفائقة فى تشكيل الشهور القادمة من تاريخ مصر السياسي، ونناقشه من الداخل أولا. من فضائل الإعلان أن أقر كثيرا من الحقوق والحريات الشخصية والعامة التى كان دستور 1971 قد سعى للحد منها أو إهدارها بعد الإساءات التى أدخلها النظام السابق فى صلب الدستور. ولكن الإعلان احتفظ بسوءة الصياغات الدستورية السابقة بإحالة تنظيم ممارسة الحريات والحقوق إلى القوانين المكملة من دون ضمانة لألا تجور القوانين على الحقوق والحريات المُقرة، وبناء عليه فلن تكتمل فضيلة احترام الحقوق والحريات فى الأساس الدستورى للمرحلة الانتقالية، وتضمن قيام نظام الحكم الديمقراطى الصالح فى مصر، وفاء للثورة، إلا بأن ينص الدستور القادم على عدم جواز تقييد الحقوق الأساسية، خاصة حقوق المواطنة، بأى صياغات قانونية تالية للدستور وبأن تقرر القوانين المكملة للأساس الدستورى فعلا ضرورة الاحترام البات لهذه الحقوق والحريات. لكن السقطة التى يمكن أن تكون مانعة للتطور الديمقراطى السليم فى مصر والتى وقع فيها الإعلان الدستورى هى فى الإصرار على «السلطات المطلقة» لرئيس الدولة، وللمجلس ذاته فى المرحلة الراهنة، وتحصينه من أى مساءلة أثناء تبوؤ المنصب. فالرئيس وحده يعين نائبه، ورئيس الوزراء، والوزراء، ويعفيهم، وكان الأجدر ديمقراطيا أن تخضع كل هذه القرارات على الأقل لإقرار مجلس الشعب، إن لم يكن الانتخاب الحر المباشر من الشعب لجميع المناصب العامة الرئيسية. هذا المنحى يصم المجلس بالإصرار على التمتع بسلطات مطلقة، وعلى التمهيد لأن يتمتع الرئيس القادم بالسلطات الاستبدادية ذاتها، مفسدة إياه فسادا مطلقا. ولا يصح هنا التعلل بسلامة النوايا وحسن الطوايا، فالدول لا تحكم هكذا، ويلزم إقامة بنى قانونية، ومؤسسية تضمن الحرية والعدل، وتحميهما من بطش استبداد أى فرد، أو مجلس، بشرى مطلق السلطات. إن السلطات الرئاسية المتضمنة فى الإعلان، والتى يزاولها المجلس حاليا، بالإضافة لسلطة التشريع، لا راد لها ولا رادع إلا استمرار اليقظة الثورية والفعل الثورى وكأن المجلس يدعو الشعب إلى الثورة الأبدية وليس أمام الشعب من خيار إلا أن يستجيب لهذه الدعوة باستمرار اليقظة الثورية والفعل الثورى إن أراد، كما أرادت ثورة شعب مصر العظيمة فى يناير 2011، أن يتمتع بحكم ديمقراطى صالح. ولا يخفى أن امتداد الفعل الثورى فى مصر لشهور طويلة قد يتمخض عن خسائر جسيمة، وسيكون المجلس المسئول عنها تاريخيا. وإن أراد المجلس تفاديها، فعليه أن يحترم غايات ثورة الشعب الذى يملك الجيش ابتداء، حيث تنص « المادة 3 »من الإعلان الدستورى على أن «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها». نقلا عن صحيفة الاهرام