أهم حجة عند الذين يطالبون بالدستور أولا هي أن العقل والمنطق يستوجبان وضع تصميم للبيت قبل البدء في بنائه وأهم حجة لمن يطالبون بالانتخابات أولا أن الديمقراطية نتيجة استفتاء 19 مارس2011 أول استفتاء توافرت له حرية ومصداقية بفضل ثورة 25 يناير و%77 ممن أدلوا بأصواتهم يطالبون بالانتخابات أولا، فهل يصح بعد هذا أن يطلب أحد باسم العقل والمنطق أن يأتي الدستور أولا. المفارقة هنا أن كلا الرأيين علي صواب، فهل يعني هذا أن تقودنا الديمقراطية إلي أشياء ضد العقل والمنطق؟! وأجيب هنا: نعم، فالديمقراطية في الاساس هي القبول بما ترتضيه الأغلبية مع اعطاء الأقلية المخالفة كل الحق في التعبير عن آرائها بالطرق المشروعة، أما تمحيص ما هو صحيح أو خاطئ فيما تقوله الأكثرية أو الاقلية متروك للزمن ولما يمكن أن تسفر عنه تجربة الأكثرية في فترة حكمها وتجربة الاقلية في فترة معارضتها ولما يقتنع به الرأي العام من كل ذلك والناس جميعا يعرفون الفروق الفردية بين عقول الأفراد والفروق بين عقول الجماعات وفق العقائد والمصالح والظروف الاجتماعية والثقافية، لهذا أنشئت الاحزاب والجمعيات والمنظمات لمواجهة هذه الاختلافات، ولذا كانت الديمقراطية بالرغم من كل ما تنطوي عليه من مفارقات تبدو ضد المنطق أحيانا ومن احتمالها لكل ألوان التلاعب والعبث، لكنها أيقونة العصر وسفينة نوح هذا الزمان! إذن ما أسباب هذا الخلاف الذي لا يريد أن يرسو علي بر بين من يطالبون بالدستور أو الانتخابات؟! الذين يطالبون بالانتخابات أولا هم جماعة الإخوان المسلمين ومن يقترب منهم من الجماعات السلفية والجهادية، وبقايا الحزب الوطني المنحل لايزالون يملكون حريتهم في الشارع ولهم علاقات نافذة أساسها المال والمصالح وهؤلاء جميعا لديهم يقين بأنه لو جاءت الانتخابات أولا فسوف يظفرون فيها بنصيب الأسد وستكون فرصتهم الكبري في اختيار أعضاء اللجنة التأسيسيةالتي سوف تضع دستور الدولة الجديدة وفق صورة يتمنونها. والذين يطالبون بالدستور أولا هم شباب ثورة 25 يناير الذين أشعلوا بعبقرية وشجاعة شرارة الثورة في أيامها الأولي بطريقة فتحت الابواب لكل طبقات وفئات وتيارات الشعب المصري بمن فيهم الاحزاب القديمة والمعارضة التي تحفظ بعضها علي المشاركة في المظاهرات في أيامها الأولي بمن فيهم الاخوان المسلمين الذين كانت لهم ايضا تحفظاتهم التي لم تخضع لها فئات من شبابهم فشاركوا منذ الأيام الأولي في المظاهرات وحين ظهر الفجر الصادق لهذه الثورة منذ الأيام الأولي اندفع الشعب المصري بكل فئاته وطبقاته فقد لاحت له ولأول مرة فرصة تحطيم قيوده والإمساك بحريته!! ربما كان شعور هؤلاء الشباب بأنهم أول من حول الغضب المكتوم في الصدور إلي ثورة وبأنهم أكثر من دفعوا ثمنا من دمائهم مما دفعهم إلي المطالبة بأن يأتي الدستور أولا خروجا علي نتائج الاستفتاء ليس فقط لأن هذا هو العقل والمنطق لكن لأن هذا التأخير للانتخابات يعطيهم فرصة ليؤلفوا أحزابهم الجديدة ويضعوا البرامج التي تترجم رؤيتهم للمجتمع الجديد، كما تعطيهم الفرصة ليشرحوا للمجتمع أبعاد هذه الرؤية التي دفعوا من أجلها كل هذا الثمن. والمتأمل لخطاب المجموعات التي تطالب بالدستور أولا يشعر أنه يحمل نبرة صاحب الحق الضائع نبرة مرتعشة برغم علو صوتها فمن ناحية يشعرون علي نحو ما بصعوبة الوصول إلي توافق حول تكوين اعضاء اللجنة التأسيسية في الظروف الراهنة التي يمكن أن تضع مثل هذا الدستور ومن ناحية أخري يشعرون بصعوبة توافق أعضاء هذه اللجنة علي مواد الدستور بالصورة التي يرونها ضرورية لتكوين دولة المواطنة التي يحلمون بها، الدولة التي يتساوي أبناؤها أمام القانون مساواة تامة بغض النظر عن العقيدة والجنس واللون والطبقة بحيث يبقي للدين دوره العظيم في تكوين ضمير الفرد، والقانون دوره ايضا في تكوين ضمير الجماعة الوطنية ومحاسبة من يخرجون علي هذا القانون ومن لا يحترمون هذا الضمير! حتي لو تم التوافق علي مستوي مواد الدستور المكتوبة فسيبقي عليهم في النهاية أن ينتظروا نتائج الاستفتاء الشعبي الذي سيعطي الدستور مشروعيته وكأنهم يخافون أن يواجهوا في النهاية الأشباح التي طلعت لهم بعد استفتاء 19 مارس حول تعديلات دستورية ومواد جديدة إضافية. وهل يمكن أن يكون هذا الخوف الكامن هو الذي يحرك الجهود اللاهثة وراء وضع نصوص دستورية حاكمة والتي يسميها البعض نصوصا فوق دستورية يمكن أن يتحقق حولها التوافق المأمول من جميع القوي السياسية والأحزاب التي شاركت في الثورة سواء ممن يطالبون بالدستور أولا أو بالانتخابات أولا. هل يمكن أن يكون هذا الخوف الكامن من الأشباح أو حتي من الانفجار والفوضي هو الدافع وراء البحث عن ضامن لمثل هذا التوافق يتمثل في المجلس الأعلي للقوات المسلحة. والآن هل يمكن أن نواصل البحث عن المعاني الكامنة وراء مثل هذا الشعور بالخوف والقلق الذي تعاني منه جماعات الد ستور أولا علي فرض صحة هذا التشخيص فنري أن هذه الجماعات تشعر في أعماقها أنها ما لم تأخذ الفرصة للوصول والتواصل بأفكارها ورؤاها مع الطبقات الشعبية العريضة في القري النائية في الدلتا وفي أعماق الصعيد وعلي حواف الصحراء حتي عند أبناء الطبقة الوسطي التي ينتمون إليها بأكثرية فانها لن تتحرر من هذا الخوف وأن تحقيق مثل هذا التواصل هو الضامن الحقيقي للوصول للدستور المأمول! هل يملك أصحاب فكرة الدستور أولا أن يثقوا في أن الانتخابات أولا لن تكون نهاية العالم حتي ولو لم يحصلوا فيها علي ما يستحقون من مقاعد برلمانية وأن عليهم وقد أنجزوا ثورتهم العظيمة استخدام وسائط جديدة للوصول إلي الجماهير العريضة برؤيتهم التي تفتح الطريق لمصر التي يحلمون بها وأن التغيير الذي يدركهم يدرك غيرهم كذلك لأن أعظم ما في الديمقراطية بالرغم من كل عيوبها أنها تتيح فرصا أبدية للناس لكي يتغيروا! نقلا عن جريدة الأهرام