كان من المفترض أن يكون الجدل الدائر هذه الأيام حول مسألة الدستور والانتخابات، وأيهما يجب أن يسبق الآخر.. كان من المفترض أن يكون مجرد خلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية.. ولا يجب!.. الواقع ينبئ بالعكس.. فقد بدأ هذا الخلاف فى الرأى يتحول إلى اتهامات متبادلة وتهديدات بالتصعيد بدأت تقترب من حد الصدام!.. ومن الطبيعى فى مثل هذه الأجواء المشحونة والمتوترة أن يتم استخدام “المغالطات” على اعتبار أنها أسهل الأسلحة لكسب معركة من هذا النوع!.. ومن المغالطات الشائعة فى هذه المعركة - والتى ما كان يجب أن تصل أبداً إلى حد المعركة - أن جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين وحدهم هم الذين يؤيدون إقامة الانتخابات التشريعية والرئاسية أولاً.. ثم الدستور ثانياً.. لأنهم وحدهم المستفيدون من ذلك.. أما الغالبية العظمى فهى تريد الدستور أولاً قبل أى انتخابات.. ومن المغالطات الشائعة أيضاً أن الموافقة على التعديلات الدستورية لا تعنى الموافقة على إجراء الانتخابات قبل الدستور.. وأن الشعب لو كان يعرف أن استفتاءه على التعديلات بنعم سيؤدى إلى إجراء الانتخابات أولاً.. لكانت “نعم” قد تحولت إلى “لا”!.. ولا أريد لنفسى ولا للقارئ أن ندخل طرفا فى هذه المعركة.. كل الذى أريده أن نناقش بموضوعية قضية الدستور أولاً أو ثانياً!.. وأبدأ بفكرة أن يكون الدستور أولاً وقبل إجراء أى انتخابات.. تشريعية أو رئاسية.. أبدأ بهذه الفكرة وأتجاهل عن عمد الجدل الذى يقوده فقهاء القانون والدستور حول صحة أو عدم صحة إصدار الدستور أولا.. ذلك أن كل الذى يهمنى هو النتائج المترتبة على تأخير الانتخابات لحين الانتهاء من إصدار دستور جديد.. سنفترض معاً أننا اتفقنا جميعاً على أن نبدأ بالدستور.. وأننا سنرجئ الانتخابات التشريعية والرئاسية لحين الانتهاء من الدستور الجديد.. ما الذى يترتب على ذلك؟!.. من البديهى فى حالة الدستور أولاً أن تظل مصر بلا رئيس مدنى منتخب حتى آخر العام القادم.. على الأقل.. وبدون سلطة تشريعية ورقابية أيضاً.. ومعنى ذلك أن الجيش عليه الاستمرار فى مهمته الحالية لمدة عام آخر جديد.. البعض يزعم أن إعداد الدستور الجديد لن يحتاج إلا لأيام قليلة قد تمتد إلى شهر واحد.. وهو كلام لا يتفق مع عقل ولا منطق.. ذلك أن إعداد الدستور لابد أن تسبقه وتواكبه مناقشات مجتمعية كثيرة وعديدة.. فى نفس الوقت لابد من أن يكون هناك توافق عام على هذا الدستور الجديد ولابد أيضاً أن نضمن أن يأتى هذا الدستور فى إطار تعبيره عن إرادة المصريين.. كل المصريين.. ألا يحتاج ذلك كله إلى فترة زمنية لا تقل عن عام إن لم تزد؟.. أذكر القارئ أن الدستور الذى صدر فى أعقاب قيام ثورة يوليو 1952 استغرق إعداده عامين.. فى كل الأحوال ستظل مصر بلا رئيس وبلا برلمان حتى آخر عام 2012 - على الأقل - فى كل الأحوال ستطول الفترة الانتقالية التى تعيشها مصر حالياً.. وفى كل الأحوال لن يعود الجيش إلى ثكناته قبل آخر العام القادم.. هل يريد الجيش ذلك؟.. هل يريد المجلس العسكرى أن يتحمل المسئولية الملقاة على كاهله كل هذه المدة؟!.. لست فى حاجة إلى إعادة ما يردده المجلس العسكرى عن رغبته فى تسليم مصر بأقصى سرعة لرئيس منتخب وحكومة جديدة وبرلمان جديد لكى يتفرغ الجيش لمهمته الرئيسية والأساسية.. الدفاع عن الوطن وحمايته من الأخطار الخارجية.. غير أن الأهم من «رغبة» المجلس العسكرى هو أن استمرار الوضع الحالى حتى آخر العام القادم يعنى أن تظل مصر غير مستقرة حتى هذا التاريخ!.. ليس سراً أن أجواء عدم الاستقرار التى تسود الشارع المصرى بكل ما تمثله من مظاهرات فئوية وإضرابات واعتصامات وانفلات أمنى.. سببها الرئيسى شعور المواطن فى مصر أنه لايزال فى مرحلة انتقالية.. وفى مثل هذه المرحلة وفى مثل هذه الأجواء لا يلتزم - حتى المواطن الشريف - بالانضباط!.. فهل تتحمل مصر أكثر من 18 شهراً أخرى بدون استقرار وبدون انضباط؟!.. وما الذى يمكن أن يحدث طوال هذه المدة الطويلة؟.. أليس من الأفضل لمصر وللمصريين أن تجرى الانتخابات أولاً وأن يأخذ الدستور الوقت الكافى لإعداده.. إذا كانت النتيجة هى استقرار الأوضاع وعودة عجلة الإنتاج للدوران.. حتى لو كانت هناك تخوفات من الإخوان المسلمين والسلفيين وفلول الحزب الوطنى.. هذا إذا كانت هذه التخوفات صحيحة!.. *** يزعم الذين يطالبون بالدستور أولاً أن الإخوان والسلفيين وفلول الحزب الوطنى هم وحدهم الذين يهمهم إجراء الانتخابات (التشريعية والرئاسية) قبل إعداد الدستور الجديد.. لأنهم وحدهم القوى المنظمة القادرة على تحقيق الفوز فى الانتخابات.. ويزعم أصحاب هذا الرأى أيضاً أن المصريين خدعوا فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. ولو أنهم كانوا يعلمون أن إجراء الانتخابات قبل الدستور بسبب أنهم قالوا نعم.. لقالوا لا!.. ويؤكد أصحاب هذا الرأى أن الغالبية العظمى من المصريين تريد أن يكون الدستور أولاً وأن تأتى بعد ذلك الانتخابات.. ويطالب أصحاب هذا الرأى بأن يكون الدستور أولاً لإعطاء الفرصة لقوى شباب الثورة لكى تتحول إلى قوى مؤثرة داخل المجتمع وقادرة على الفوز فى الانتخابات!.. تعالوا نلجأ للعقل والمنطق.. والموضوعية!.. الإخوان والسلفيون بالقطع.. وربما بقايا الحزب الوطنى.. يمثلون القوى السياسية المنظمة القادرة على الفوز فى الانتخابات.. لكنهم ليسوا وحدهم.. فهناك القوى الحزبية التى تمتلك على الأقل الخبرة السياسية.. ثم حتى لو فاز الإخوان والسلفيون وفلول الحزب الوطنى فى الانتخابات التشريعية.. ما الذى يخيفنا من ذلك؟!.. هل يخيفنا أنهم سيتحكمون فى الدستور الجديد؟.. غير صحيح.. لأن الدستور فى النهاية سيتم الاستفتاء الشعبى عليه.. إذا وافقنا صدر وإذا اعترضنا سيتم تعديل المواد التى نعترض عليها.. هل يخيفنا أن يأخذنا هؤلاء الإخوان والسلفيون وبقايا الحزب الوطنى فى اتجاه يبعدنا عن الدولة المدنية وعن الحرية وعن الديمقراطية؟!.. غير صحيح أيضاً.. لأننا أولاً لن نعيد انتخابهم مرة أخرى.. ولأن ميدان التحرير غير بعيد عن أى مواطن!.. ثم إن الديمقراطية قادرة على إصلاح نفسها وتصحيح مسارها بنفسها.. فما الذى نخاف منه وعليه؟!.. أما الزعم بأن المصريين خدعوا فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. وأنهم كانوا سيصوتون بلا لو أنهم كانوا يعرفون أن الموافقة على التعديلات سيترتب عليها إجراء الانتخابات أولاً.. فهو باطل يراد به باطل!.. قبل التعديلات الدستورية أعلن المجلس العسكرى خريطة طريقه.. استفتاء على التعديلات يعقبه إعلان دستورى.. ثم انتخابات تشريعية يعقبها انتخابات رئاسية.. كان الذاهبون إلى الاستفتاء يعرفون ذلك ويعرفون أن موافقتهم على التعديلات الدستورية تعنى موافقتهم على إجراء الانتخابات التشريعية فى الموعد المحدد لها وقبل صدور الدستور الجديد.. الموافقة على التعديلات الدستورية جاءت بأغلبية كاسحة.. ليس لأسباب دينية.. وإنما لأن الغالبية تريد الاستقرار وتريد انتهاء المرحلة الانتقالية بأسرع وقت ممكن.. فى هذا الإطار فإن الزعم بأن الغالبية العظمى تؤيد فكرة أن يكون الدستور أولاً والانتخابات ثانياً.. مغالطة واضحة ومحاولة لفرض رأى الأقلية على الأغلبية.. وهذا يبعدنا عن مفهوم الديمقراطية وعن مفهوم المبادئ التى طالبت بها ثورة يناير.. ومن أجلها قامت!.. ويتبقى بعد ذلك كله مطلب البعض بإعطاء مهلة لشباب الثورة لكى يتحول إلى قوى سياسية مؤثرة قادرة على الفوز فى الانتخابات.. هل يدخل ذلك فى إطار العقل والمنطق؟!.. أليس معنى ذلك تعطيل الحياة السياسية فى مصر حتى يكبر الصغار؟!.. ثم لماذا نفترض أنهم يحتاجون لهذه الحماية والرعاية الخاصة وهم الذين طالبوا فى ميدان التحرير بزوال هذا النوع من الحماية والرعاية الخاصة؟!.. لماذا لا نتركهم يمارسون التجربة بكامل أبعادها.. يخطئون ويصيبون ويتعلمون؟!.. وحتى لو افترضنا أن هناك توافقاً عاماً على أن نبدأ بالدستور قبل الانتخابات لكى نمنح هؤلاء الشبان الفرصة لكى يتحولوا إلى قوى سياسية مؤثرة وقادرة على الفوز فى الانتخابات.. أليس من السذاجة أن نتصور أن مهلة مدتها بضعة أشهر قد تصل إلى عام.. تكفى لكى تحول هؤلاء الشبان لقوى مؤثرة قادرة على الفوز؟!.. *** الدستور أولاً.. أو الدستور ثانياً ليست هى القضية.. القضية أننا نعبر مرحلة صعبة.. مرحلة انتقالية يتعين علينا أن ننتهى منها بأسرع وقت ممكن لأنها مليئة بالأخطار.. إذا لم نكن نراها فهى مصيبة.. وإذا كنا نراها.. فالمصيبة أعظم (!!!)..