الشيخوخة ليست نشاطاً دائماً وليست انسحاباً تاماً من الحياة، وإنما هي مرحلة من مراحل عمر الإنسان، ينبغي أن تستثمر في العبادة وفعل الصالحات وممارسة الحياة بما يناسب الوضع النفسي والجسدي للإنسان الذي وصل إلى هذه المرحلة من العمر. كان الانسحاب من الحياة بدعوى الشيخوخة والتقاعد, يفضي إلى ضياع الوقت وبالتالي جزء من عمر الإنسان فيما لا فائدة منه. والعمل الشاق الذي لا يتحمله الإنسان الشيخ والمسن أيضا فيه ظلم إلى الإنسان وذلك لأن لبدنك حق عليك، وإن التقدم في العمر والوصول إلى مرحلة الشيخوخة, يختلف من شخص لآخر. وتتأثر حياة كبار السن بالعديد من العوامل الاجتماعية والثقافية الاقتصادية والنفسية، فالمجتمع الذي تسوده أخلاق الأثرة والأنانية والمصلحة الضيقة, لن يجد المسنون فيه رعاية لائقة ومناسبة. كما أن المجتمع الذي تسوده قيم العدل والإحسان والإيثار, فإنه سيبدع الكثير من أشكال الرعاية لكل الحلقات الضعيفة في المجتمع ومن ضمنهم كبار السن، لذلك فإن مجموع العوامل الاجتماعية والثقافية, تؤثر سلبا أو إيجابا في مستوى الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية للمسنين. إن المسن القادر على العطاء, حينما يتوقف ويخلد إلى الركون والهمود ويتعذر بتقاعده دون تشغيل طاقاته واستثمار إمكاناته, سيصاب بالعديد من الظواهر المرضية سواء على المستوى النفسي أو المستوى الجسدي، لذلك ينبغي لنا كمجتمع أن نبحث عن التدابير اللازمة والأطر المناسبة, لكي يستمر المسن في القيام ببعض الأعمال المناسبة, وذلك ضمن إطار وسياق تنموي- اجتماعي, لا يستثني كبار السن عن القيام بالأدوار المطلوبة. ولعل من المناسب أن نشير إلى ضرورة إنشاء مراكز أو نواد للمسنين لمساعدتهم على الاستمرار في النشاط العقلي والجسمي والنفسي، ومن الأهمية بمكان أن تكون أنشطة هذه المراكز والأندية ملائمة نفسياً وجسدياً واجتماعياً للمسنين، وذلك لأن لكل فئة عمرية متطلبات معينة لابد من الوفاء بها. ومن الضروري أن يكون لدى المسن الاستعداد والقدرة على المحافظة على أسلوبه في الحياة عند التقاعد، ولابد من إدراك أن المسنين ليسوا فئة متجانسة مع بعضها البعض، فلكل مسن ظروفه الخاصة وأوضاعه الموضوعية التي تحدد بشكل أو بآخر الطريقة المثلى للتعامل معه. وما نود قوله في هذا المجال: إن العمل على إخراج المسن من حالة العزلة وإدخاله في الدورة الاجتماعية الطبيعية بما يناسب إمكاناته النفسية والجسدية وتاريخه الاجتماعي, يعد جزءاً أساسياً من مفهوم رعاية المسنين في المنظور الإسلامي، وذلك لأن الشعور بالعجز والبطالة والكسل والاعتماد على الآخرين, هو الذي يساهم في تردي أوضاع المسنين في الكثير من البلدان والمجتمعات. ولابد أن ينظر الإنسان المسلم إلى التقاعد عن العمل الرسمي أو اعتزال الخدمة على أنه متغيرإيجابي في حياته يحرره من قيود الوظيفة ويطلق لطاقاته وقدراته العنان في أعمال تعود بالنفع عليه وعلى أسرته ومجتمعه وأمته ودينه، إن الإسلام يرى أن مهمة الإنسان في الحياة الدنيا هي خلافة الله في الأرض: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً), وإن دوره في أداء هذه المهمة وغايته منها هو عبادة الله عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). ومفهوم العبادة في الإسلام يتسع حتى إنه يشمل جميع الأعمال والأنشطة والمشاعر وحتى الرغبات التي يطلق لها العنان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله. ومن هنا كان العمل جزءاً من العبادة في تصور الإسلام, ويرتبط العمل في القرآن الكريم بالإيمان ويرتبط بقيمة أخرى هي إتقان العمل واستمراريته حتى جاء في الحديث الشريف: »ولو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة, فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها«. فالمسنّ طاقة وثروة اجتماعية ينبغي الاستفادة منها بما يناسب الظروف الراهنة, سواء في القيام ببعض الأعمال التطوعية أو إسداء النصح والمشورة وتقديم الآراء والخبرات التي ترتبط بمجالات تخصصهم وفهمهم، لذلك فقد جاء في الحديث الشريف »رأي الشيخ والجلد الصبي«. ومن الأهمية بمكان عدم عزل مؤسسات الإيواء للمسنين عن المحيط الاجتماعي, وذلك لأن شعور المسن بالعزلة الاجتماعية يؤدي إلى الكثير من المشاكل النفسية والبدنية. وإن مؤسسات الإيواء ينبغي أن تلحظ جميع الحاجات الطبيعية للمسن، فوفير هذه الحاجات مع الشعور بالوحدة والعزلة يؤدي إلى نتائج عكسية، لذلك ينبغي أن تلحظ مؤسسات الإيواء جميع الحاجات والجوانب الضرورية لحياة المسن الجديدة. لهذا كله كان من الضروري تأكيد وتعميق القيم التالية في المحيط الاجتماعي: صلة الرحم: وذلك لأن إعادة الاعتبار لهذا المفهوم, والعمل على تكريسه في واقعنا الاجتماعي, يساهم مساهمة كبيرة في تطوير مستوى رعاية المسنين، لأن من أولويات صلة الرحم الرعاية والاحترام وتوفير الاحتياجات الضرورية لمن لا يتمكن من توفيرها. لذلك نجد أن الدين الإسلامي الحنيف يؤكد على دعوة صلة الرحم والتعاطف والتقارب بين أولي الأرحام وذوي القربى، فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). وقد جاءت الأحاديث الشريفة لتؤكد على حق الوالدين على الأبناء, برّهم ورعايتهم وتوفير احتياجاتهم والعمل على إسعادهم، ففي تفسير الآية الكريمة: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): »رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما«.ولم تكتف الأحاديث الشريفة في بيان صور بر الوالدين ورعايتهما في حياتهما, وإنما أشارت إلىطريقة برهما بعد موتهما. التعاون والتكافل فالإسلام حينما أكد على قيمة التعاون, إنما أكدها من أجل أن يتعاون الإنسان المسلم مع إخوانه وأبناء مجتمعه وأمته في مواجهة أعباء الحياة ماديا ومعنويا، والتكافل كقيمة دينية واجتماعية, جاءت لتؤكد هذه الحقيقة. فقيمتا التعاون والتكافل تدفعان الإنسان المسلم إلى رعاية ذوي الحاجات وعلى رأس هؤلاء كبار السن, الذي ينبغي أن يتعاون أبناء المجتمع الواحد لرعاية احتياجاتهم المادية والنفسية والصحية والاجتماعية. الاحترام المتبادل: وذلك لأن سيادة هذه القيمة في علاقتنا الاجتماعية يزيد من الأواصر الاجتماعية ويمتص العديد من السلبيات والمشاكل, وذلك لأن »جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء عليها«. والقاعدة الأساسية التي تنطلق منها مقولة وضرورة الاحترام المتبادل في العلاقات الاجتماعية, هو إننا جميعا بحاجة إن ننظر إلى الآخرين نظرتنا إلى أنفسنا, وأن نتعامل مع الآخرين كما نحب أن يتعامل معنا، فقد جاء إعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم): فقال »يا رسول الله علّمني عملاً أدخل به الجنة، فقال ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم, وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم«. فالاحترام المتبادل في العلاقات الاجتماعية بين مختلف الدوائر والشرائح يبدأ من الإنسان نفسه، فهو الذي ينبغي أن يبادر إلى صياغة علاقاته مع غيره وفق ما يحب ويتطلع أن تكون علاقة الآخرين معه.إن احترام الآخرين والإحسان إليهم, هو الذي يقود إلى المحبة والوئام، ولا يمكننا أن نصل إلى التعاون والسعادة في المجتمع بإهانة الآخرين وحرمانهم من العطف والاحترام. لذلك، فإن المطلوب هو احترام المسنين وتقديرهم ومحبتهم والتفاهم معهم والتعايش معهم, وذلك لأن هذا الاحترام بكل صوره وأشكاله هو رمز الفلاح والسعادة والتآلف في الأسرة والمجتمع، ولنتذكر جميعاً أن احترامنا وبرّنا وتواضعنا لآبائنا, هو الذي يغرس في نفوس أبنائنا هذا السلوك الحسن.