وكأنني في كابوس أصارعه مصارعة عنيفة كي يحل عني ويتركني .. فلم اكن اتخيل ولم يخطر ببالي لحظة واحدة ان ارى هذا المشهد في بلدي مصر المحروسة .. لم اتخيل ان ارى جنازة مهيبة لشهيد مصري واسمع صوت المشيعين .. لا اله الا الله الشهيد حبيب الله .. تعودت على هذا المشهد وصوت المشيعين بهذه النغمة الحزينة في فلسطين .. حيث الشهيد تقتله ايادي العدو الاسرائيلي . وهذا طبيعي .. ان يأتك الغدر من عدو امرا عادي .. فإن لم يغدر بك عدوك فمن يغدر اذن ؟ لكن - وضع تحت لكن هذه مائة خط - ان يقتلك أخوك .. ابن بلدك .. فهذه هى الفتنة الكبرى التي منذ سنوات بعيدة فتتت العالم الاسلامي تفتيتا مذريا لا تزال أثاره باقية حتى اللحظة.
هى بالفعل الفتنة الكبرى تلك التي تمر بها مصر الآن .. فتنة قذرة خسيسة قسّمت كل فئات الشعب إلى نصفين .. وياليتها الديمقراطية التي نتمناها .. الرأى والرأى الأخر نطلقه بنزاهة وحرية ليستفيد في النهاية هذا البلد الأمين الذي لم يعد أمينا على الإطلاق في عهد مرسي .. صار هناك تطاحن شديد الوطأة بين جانبين .. وصل في الشارع الى كر وفر وقتل ودماء .. المنظر والمشهد عندما أشاهده في التلفاز أظنه لقطة ارشيفية لما حدث أثناء الثورة وبعدها .. وقبل انتخاب مرسي .
الرمي بالحجارة والمولوتوف .. وأفراد شرطة يعتلون المباني يضربون بالخرطوش ويرمون بالقنابل التي يصل مفعولها أحيانا الى ما هو اشد فتكا من القتل بالرصاص .. وارى بعيني مجموعة من العساكر ومعهم ضباط يضربون بقسوة بالغة أحد المتظاهرين ويسحلونه في الشارع ويتبادلون القفز عليه والنزول على جسده الضعيف وعلى وجهه بالبيادة .. بغل لم ار له مثيلا حتى قبل ان يكون مرسي رئيسا.. والمشهد الأشد قسوة وإيلاما ، هذا التطاحن بين متظاهرين يعترضون على الإعلان الدستوري وبين جماعة الإخوان المؤيدة - وهى مغمضة العينين
على القرارات الأخيرة لرئيسها مرسي .. ويموت شهيد في دمنهور قتلا .. لا يعنيني ولا يشغلني بالإطلاق ان كان من الثوار او من الجماعة .. لأنه في النهاية مصري .. والمؤلم ان عمره 15 عاما .. صبي لم يدخل بعد مرحلة الشباب .. مات بسبب عناد غبي من جماعة أغبى يسمعون تعليمات تأتيهم " من فوق " فيتحركون كالقطيع دون ان يعرفوا أساسا لماذا خرجوا وبماذا يهتفون ومتى ستأتيهم الأوامر ليرجعون. ثلاثة ماتوا يا مرسي .. وانت الذي قتلتهم .. ولاتزال على عنادك مصرا .. ونجحت نجاحا مبهرا في ضرب قضاء مصر في مقتل فأحدثت انشقاقا بينهم.. طاوعك من طاوعك منهم وجاءوا اليك في قصرك منبطحين " نايمين على بطنهم " .. فرحين بغباء منقطع النظير انهم كانوا في حضرة رئيس الجمهورية واستقبلهم بحفاوة بالغة وقدم لهم الشاى والقهوة وودعهم ب " شلوت " ارض جو يستحقونه ، لأنهم تنازلوا عن مكانتهم وعلو شأنهم وذهبوا هم اليه دون تمسك منهم بأن الرئيس هو الذي يجب عليه الذهاب اليهم في عقر دراهم ليس احتراما لهم كأشخاص ولكن احتراما للقيمة والمعنى .
خرجوا من عندك ولا اعرف ماذا قالوا لأنفسهم بعد اللقاء وكيف سينظرون الى هيئتهم في المرآة حين يخلوا كل واحد منهم بنفسه ويعرف انه انحنى أمام إرادة غاشمة وسيُجبرون على المزيد من الانحناء حيث " جاب مرسي مناخيرهم الأرض".
في الوقت نفسه .. جبهة قضائية أخرى تقف موقف رجولي - والكلمة اعنيها واعني ايضا عكسها على الجبهة المضادة المنبطحة – اقول تقف هذه الجبهة موقف رجولي مصرة عليه لا ترضى بالتحايل والتلوين والكذب ولا يشرفها من الأساس ان يدعوها رئيس الجمهورية فتذهب اليه هرولة .. فهم قضاة مصر وعمود الاستقرار فيها وملاذ الكبير قبل الصغير .. اذا انهار انهارت الدولة انهيارا ساحقا .
هذه الجبهة اتمنى ان تظل على موقفها ولا تخذل ثقتنا بها وفيها الى النهاية ولو دفعت في سبيل ذلك حياتها .. فما اهون الاشخاص حين يموتون ليعيش المعنى وتحيا القيم شامخة.
نفس الذي حدث في الهيئة القضائية حدث مثله في نقابة الصحفيين ونقابة المحامين .. نخبة البلد .. انقسام يجعل الصورة امام العامة مشوشة بدرجة هائلة فتعجز عن التمييز بين الحق والباطل .. انها السياسة الاستعمارية القديمة التي ينتهجها الآن محمد مرسي .. سياسة " فرق تسد " ونجح فيها نجاحا يستحق عليه الأوسكار ان كان في الأوسكار جوائز للغباء السياسي والأحاسيس البليدة المتبلدة .
التي لا تذرف دمعة على شهيد قتلته بتعنتك وتجلس ضاحكا مبتسما تبرر فعلتك الخسيسة بإعلانك الدستوري الأكثر خسة .. ويسمعك من يسمع وينصت لك من ينصت وعينه ورأسه في الأرض خجلا من النفس حين تركع لغير خالقها.
واكثر ما يثير غضبي ان ارى رجلا كنت اكن له كل الاحترام والتبجيل وازهو به وبسيرته امام العالم .. اكثر مايثير غضبي ان ارى هذا الرجل وقد تحول 180 درجة .. فقط لأنه ببساطة اصبح وزيرا للعدل .
اعني المستشار احمد مكي .. واقول له : يا وزير العدل .. قف مع نفسك وقفة صادقة واستعرض تاريخك الماضي القريب وقت ان كنت نموذجا للقضاة الشرفاء .. هل وانت الان وزيرا للعدل .. ترى اى عدل فيما اتي به رئيسك مرسي في اعلانه الدستوري المشئوم ؟ كيف وانت وزيرا للعدل تتحايل وتحاول ان تجد مبررا ولو ضعيفا لمصيبة - انت اعلم بها منا - جاء بها الرئيس مرسي وصدّرك انت في المشهد لتقوم بدور " زمّار " الحي الذي وعلى عكس المثل الشائع لا يطرب إلا اهله وعشيرته .. ماذا .. لو كسبت منصبا وخسرت نفسك؟ .. راجع نفسك يا سيادة المستشار واقسم لك لو انك كنت صادقا معها ولو لمدة دقيقة لقدمت استقالتك فورا وغير نادم.
نهاية القول .. مصر فين يا مرسي ؟ مصر التي نعرفها ليست هى التي نراها الآن .. مصر فين يا مرسي والى اين تسير بها .. ومن أوهمك انك تستطيع .. لا انت ولا من كان قبلك ولا من سيأتي بعدك يستطيع ان يقهر مصر ويذلها ويضع رأسها تحت حذائه .. مصر هى التي تفعل بمن يستهين بها .. تذله وتكسر انفه وتضعه هى وليس غيرها تحت الحذاء.