السؤال الصعب الذى يواجهه الواحد كل ساعة فى الشارع من شاب زى الورد «أعمل إيه»، ليس المسؤول أفضل حالا من السائل، فالأمر معقد، أرفض قرارات مرسى وأراها كارثة، لكن الرجوع عنها مصيبة، فالرجوع يهدم ما تبقى من هيبة قرارات الرئاسة التى يتم التنفيض لها، فأقول لنفسى ربما هذا ما جعله يحصن قراراته، لأنه لا يقوى على تنفيذها، فألطم لأنها مصيبة أخرى أن تصل بك قلة الكفاءة لهذه الدرجة فتعلنها صريحة «ماحدش بيباصى لى الكورة والكورة بتاعتى وماحدش هيلعب غيرى»، اللطم يتعاظم عند مواجهة من ينتصرون للديكتاتورية ويسألونك «مبررة ولا مش مبررة؟»، هنا يطل شفيق من جديد وتدخل فى متاهة أن الثوار والفلول أصبحوا فى صف واحد، تقول لنفسك طب ما الإخوان والعسكر كانوا يدا واحدة أيضا، تحذف الثوار والعسكر من المعادلة فيتبقى الإخوان والفلول، تلطم من جديد فيقولون لك اِلْحق الضرب اشتغل تانى فى قصر العينى، تفتح الشاشة فيصيبك الحوَل من متابعة أربعة مربعات فى وقت واحد، تبرير قرارات مرسى مغلف بالتعالى والبرود ومحاولة افتعال الحكمة، تهرب فيطل عليك الزند فتقول لنفسك لقد استكثر الرئيس على نفسه متعة أن يكون معارضوه بقامة البرادعى وأبو الفتوح فصنع معارضيه الجدد بنفسه و«على قده». تحاول أن تجرد الأفكار وتحيلها إلى علم المنطق، مثلا أنت انتخبت حمدين صباحى، لو أن حمدين أصدر قرارات من هذه النوعية وحشد لها.. وقبل أن تكتمل الفرضية أرى نفسى بالبوكسر على سور البلكونة أقول فى حمدين أضعاف ما قاله باسم يوسف فى شلة ال«سى بى سى»، لأنه ديكتاتور، ولأننى دعوت يوما لانتخاب ديكتاتور، فعلى الأقل أصلح ما يخصنى، أقول ذلك دون أدنى تفكير، فيطل عصام العريان من جديد على الفضائية ليجيب عن السؤال نفسه بالضبط قائلا: لو أى رئيس عمل كده هادعمه فورا أيا كان وبقوة، وهو لا يقول الحقيقة قياسا على أن جماعته وقفت فى برلمان مبارك، اعتراضا على قانون الطوارئ الذى كان يريد مبارك أن يسيطر به على البلد، ولا هى السيطرة حرام على مبارك وحلال على مرسى مثلا؟
الأمر معقد وأمام هذا الهذيان لا أجد سوى أربع إحابات ل«أعمل إيه» عليك أن تختار ما يتماشى مع ضميرك وطاقتك.
لديك الطاقة الجبارة وتريد أن تنخرط فى مشروع النهضة (انت حر) أو تريد أن تنخرط فى مشروع الثورة (يا ريت)، لكن إذا اخترت مشروع النهضة «ماتجيبش سيرة الثورة على لسانك، ولا تتاجر بها، لأنه لا علاقة بين الاثنين ولدينا على ذلك ألْفَا دليل، وكل واحد عارف اللى عليه ف«ماتمثلش»، وضع فى يقينك أن مشروع النهضة يحتاج إلى «نهضة» تبدأ من التحرر من إهانة التحريك بالريموت، ولا تنتهى بالتحرر من رفقة الملاوعين أصحاب الأفكار البالية، فانهض بعقل المشروع تبقى خدمتنا كلنا، أما إذا اخترت مشروع الثورة (فالثورة أيضا بحاجة إلى ثورة) فلتكن البداية داخل معسكر الثورة نفسه فتحرره من سيطرة المضللين والحمقى وأصحاب الإنجاز الشفهى، وتخترق أجواء الشارع كما يليق بثائر حقيقى مشغول بالتطبيق أكثر من النظرية، الأهم من اختيار مشروعك أن لا تتورط فى الوقوف فى المنتصف بين المشروعين وإلا ستتحول إلى مسخ.
ليست لديك الطاقة الجبارة، فعليك أن تؤمن بأن مصر فى حالة مخاض، هى بس مصر بتولد فى وقت طويل، المخاض شىء قدرى تماما، وكذلك الثورة التى ينسجها القدر منذ جمعة الغضب حتى يومنا هذا، وفى حالات الولادة لا يملك أحد أن يتدخل إلا لو كان طبيب نساء وولادة، غير ذلك كل المطلوب منك أن تكون على أهبة الاستعداد إذا ما ظهر لك دور فى عملية الولادة، وتم الاعتماد عليك فى أمرٍ ما فتؤديه بكل همة وإخلاص، فعلى هامش الولادة سيطلب منك التصويت على الدستور وانتخاب برلمان جديد.. إلخ، فعليك أن تصوت لدستور يحترمك ويحترم هويتك وتوعى من حولك بهذا، وعليك أن تنتخب للبرلمان من يشبه المستقبل الذى تحلم به فلا تأتى بثائر أونطة أو فلول نصف تائب أو شيخ لديه سيارة ماتريكس.
ليك فى الثورة بس مالكش فى السياسة.. عليك أن تصنع ثورتك أو نهضتك فى حدود عالمك الصغير كوحدة مستقلة، عندما تكسر ثوابت رديئة على مستوى حياتك الشخصية فى كل مكان ستصنع وحدة مستقلة بارعة، ثم تنتقل عدوى البراعة إلى الوحدات المجاورة لك، فتصبح الوحدات التى تشكل المجتمع على أول طريق التطور تلقائيا، والعدوى مضمونة، فإذا كنت مثلا تقف مع جمع فى فرع «فودافون» تتعرضون لمعاملة رديئة والكل صابر حتى ينجز مهمته وينصرف، ثم قررت أنت أن تعترض ستجد الجميع يشاركونك الاعتراض بدرجة تجبر «فودافون» على أن تحترم نفسها.
الاختيار الرابع أن تسلك طريق أصحاب الأرواح الرقيقة المرهفة الذين يحبون البلد بقوة، ولكن فى صمت، ويؤمنون أن الأيام التى نعيشها أيام فتنة، يليق بها أفكار السلف الصالح «من صمت نجا» أو «نعم صومعة الرجل بيته» أو «كن مع الثابت يكفيك المتغير» (والثابت هو الله وتجردك فى التسليم له يكفيك شر كل التغيرات المؤذية التى نمر بها)، وهذه ليست سلبية بالمناسبة، لكن أحيانا ينكسر سم الفتن إذا ما كثر عدد من يتجنبها، وتقوى شوكتها بكثرة المتورطين فيها بالذات (اللى مالهمش فيها).
أنا شخصيا لا أفضل حلا على الآخر، وأرى كل من يختار واحدا منهم بصدق يستحق احتراما مساويا للاحترام الذى يستحقه الآخرون، أنت أعلم بقدراتك فوظِّفها بالطريقة التى تخدمك وتخدمنا، ولا تبتئس فالأيام صعبة على الجميع، أنا شخصيا أحمد الله بقوة، لأننى ما زلت أحتفظ بقدر من عقلى يساعدنى على تمييز بنتى من بنت الجيران، ولأننى ما زلت قادرا بفضل الله بعد كل هذا الهرى أن أمسك الملعقة بيدى اليمنى فأملؤها أرزا ثم أرفعها فأضعها بالضبط فى فمى مش فى حتة تانى.