!صديقي..رئيس الديوان!.. يتحلى صديقي السفير محمد رفاعة الطهطاوي بمناقب كثيرة لا تُحصى ولكني أعُف وأخجل من ذكرها الآن بعد أن صار رئيسا لديوان رئيس الجمهورية حتى لا أوصم بالنفاق وتلك نقيصة تُشينه بقدر ما تُشينني..غير أني آخذ عليه "تحوًلا" فكريا وسياسيا بدأ في السنوات القليلة الماضية من عمر صداقتنا وما فتيء يتفاقم حتى بات مثار مناقشات وجدل حاد كاد أن يُفسد للود بيننا قضايا عديدة وليس قضية واحدة!!..وأعني بذلك تبنيه أفكار جماعة الإخوان المسلمين وتفانيه في الدفاع عنهم..فهو يرى أنهم ظٌلموا كثيرا وتعرضوا لتشويه متواصل على مدى عقود وأن من حقهم أن ينالوا فرصة كاملة لحكم البلاد طالما أن الشعب إختارهم بإرادته الحرة..ويرى أيضا أنهم شاركوا في الثورة منذ البداية ولعبوا دورا رئيسيا في حمايتها وإنقاذها..وأنا لا اتفق معه في أي من ذلك إلا في حقهم أن يحكموا طالما أن تلك هى إرادة أكثرية الناخبين..أما عن حمايتهم للثورة وإنقاذهم لها فهو محض إدعاء لا يصمد أمام الحقائق والوقائع المٌسجلة ، ولا يختلف عما يردده المجلس العسكري من مزاعم مماثلة!!.. بل إنني لا زلتُ على رأيي الذي كتبتُه في هذا المكان من قبل من أن جماعة الإخوان والمجلس العسكري إختطفا الثورة وأنه "...بعد أن هيمن الإخوان وحزبهم على الرئاسة ورئاسة الحكومة والوزارات الجماهيرية ، فإنه لم يعد أمام القوى الثورية الحقيقية المؤمنة بمباديء وأهداف ثورة 25 يناير إلا توحيد صفوفها والعمل سويا وسط الجماهير لإحباط محاولات الأخونة وإسترداد الثورة والدولة معا.."..
وأذكر أنه عندما تخلى الإخوان عن الثوار وغادروا الميدان لحصد الغنائم الإنتخابية ، ظل السفير رفاعة في الميدان واشتبك في حوارات ساخنة دفاعا عن الإخوان ضد تُهم التخوين والخذلان..ونجح في بعض الأحيان في تخفيف غضب المتظاهرين على الإخوان بفضل المصداقية التي يحظى بها بين ثوار قدروا كثيرا إستقالته من منصبه كمتحدث رسمي باسم الازهر لينضم الى صفوفهم في بداية الثورة..كذلك قدم السفير رفاعة خدمات لا تُنسى لحملة الدكتور محمد مرسي أعلم بعضا مما ظهر منها فقط أما ما بطن فعلمه عند ربي ..ومن ذلك إصطحاب المرشح الرئاسي الإخواني الى سوهاج وإستضافته ليبيت في منزل عائلة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في طهطا..ورغم كل ذلك فقد فوجئتُ بخبر تعيينه رئيسا للديوان..ولم يكن سبب المفاجأة بطبيعة الحال أن الإختيار لم يصادف أهله ..
بل هناك شبه إجماع على أنه "الرجل المناسب في المكان المناسب"..وأن ذلك أفضل قرارات الرئيس مرسي على الإطلاق مع قراره إختيار المستشار محمود مكي نائبا للرئيس..ولكن سبب المفاجأة أن الإخوان يفضلون عادة إسناد المناصب الحساسة والجماهيرية لكوادرهم من أهل الثقة والسمع والطاعة ، والسفير رفاعة ليس من كوادرهم على حد علمي..غير أنني ضبطتُ نفسي أبتسم وأنا أتذكر نقاشات طويلة ومجادلات صاخبة بيني وبينه قلتُ لهمازحا خلال بعضها إن لدى شكوكا قوية في أنه ربما يكون إحدى خلايا الإخوان النائمة!!..وذات مرة إحتد الجدال بيننا فقلتُ له بثقة لم أعرف مصدرها حتى الآن " على فكرة..أنا حفيد رفاعة الحقيقي ولست أنتَ..لأن جَدك وجَدي (بإعتباري بلديات الشيخ رفاعة وبإعتباره مثلي الأعلى) لم يكن يمينيا أو محافظ الفكر (مثل الإخوان) وإنما كان تقدميا يسبق عصره بمئات السنين"!!.. وفي مكالمتي الاولى مع السفير رفاعة بعد توليه منصبه الجديد ، قلتُ له بعد التهنئة.."مهمتك يا رئيس الديوان لا تقل أهمية عن مهمة جَدك الكبير رفاعة رافع الطهطاوي"..بوغت الرجل وقال لي ببلاغته وتواضعه المعروفين عنه لا تظلمني ..فأين الثَرَى من الثُريا"؟!!.. لم تسعفني المكالمة بالطبع لشرح وجهة نظري وانتهت على وعد بلقاء قريب ..ولكن ما لم أقله لصديقي هو أن الشعور الذي بات يسيطر عليً منذ عرفت بخبر توليه هذا المنصب الرفيع أنه ربما تكون الاقدار قد شاءت أن يكون في هذا الموقع النافذ لكي يقوم بالدور المحوري الاهم المطلوب منه ومنا حاليا والذي يتمثل في محاولة إنقاذ مشروع النهضة والتنوير والتحديث الذي أرساه جَده رفاعة الطهطاوي منذ نحو 150 عاما وساهم في ترسيخه وتعزيزه كل رواد النهضة الذي تتلمذوا عليه أو خرجوا من عباءته..
يعرف السفير رفاعة جيدا ، وهو قاريء نهم للتاريخ، أن الدولة الحديثة التي أقامها محمد علي كان يمكن أن تموت مع مؤسسها لولا مشروع رفاعة الحضاري الذي أطلق نهضة تعليمية وعلمية وثقافية وضعت مصر في موقع الريادة وبنت "قوتها الناعمة " التي ضمنت لها السيادة على المنطقة دون غزو أو حرب..وسأكتفي هنا بشهادة الاديب الكبير بهاء طاهر الذي قال " تدين مصر للطهطاوي بأكبر فضل في التغيير الثقافي الذي غير وجه الحياة إذ أرسى مفاهيم مثل الحرية والمساواة والاخوة الوطنية اضافة الى مفهوم (الوطن) مقابل مفهوم (الامة) الذي كانت دولة الخلافة العثمانية تحكم باسمه ويشمل الامة الاسلامية كلها"..والآن صرنا نسمع كلاما عن إحياء الخلافة الراشدة ..ونرى هجمة شرسة ومنظمة على الحريات الاساسية وخاصة حرية الرأي والتعبير والإبداع..ونشهد "غزوة" سلفية وهابية على عقل مصر ووجدانها..إنها هجمة صحراوية متعددة الاطراف والابعاد تستهدف حصار وتقويض مشروع الدولة العصرية الذي ارساه جدك يا سعادة السفير ..وأعتقد أن الأقدار إختارتك أيها الحفيد لإنقاذ مشروع جدك وجدنا ، إذا كنت لا زلتَ مؤمنا به ، وإلا فإن التاريخ سيرمينا بالعقوق ..وربما يحكم علينا ، لا قدر الله ، بالبكاء كالنساء على مشروع ل"نهضة"عظمى حقيقية لم نحافظ عليه كالرجال!!..