كان محمد النفس الزكية من نسل النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وقرر أن يستجيب للآلاف الذين طالبوه بقيادة ثورة ضد العباسيين وانتزاع الملك منهم انتصارا للعدل والحرية وإعلان دولة تستعيد قيم النبى الكريم وعدل خلفائه الراشدين. وحصل. وصل محمد النفس الزكية إلى المدينة، ودعا لنفسه وتهافت الجميع حبا وحنانا وشوقا وأملا إليه، وتضامن الآلاف معه ومعظمهم من أحفاد الصحابة والتابعين وأبناء آل البيت، وتكون جيشه من المؤمنين بفكرته وبأحقية نسل النبى بوراثة حكم المسلمين، وأعلن الرجل دولته واستقلاله عن الدولة العباسية.
ولما بلغ الخليفة العباسى الخبر أمر قائده وابن عمه عيسى بن موسى بالسفر بجيشه إلى المدينة لإنهاء تمرد النفس الزكية، فلما وصلت الأنباء إلى النفس الزكية بقدوم الجيش قرر أن يحمى المدينة بتقليد جده العظيم صلى الله عليه وآله وسلم بحفر خندق فى محيطها وحول أركانها وعند حدودها لردع الهجوم القادم ومنع جيش الغزاة من اقتحام المدينة، وتَجمّع عند حدود المدينة الآلاف يحفرون الخندق، وقد تلمسوا أن يحفروه مكان الخندق القديم الذى حفره رسول الله بنفس الشكل والعمق والارتفاع والاتساع، وعندما تعثروا فى آثار تدلهم على أنه نفس الخندق الأول واكتشفوا نفس طمى عمق الحفر النبوى أدركوا أنهم على درب نبيهم وأن النصر حليفهم.
عندما وصل جيش العباسيين فرأى الخندق التفت قائدهم عيسى بن موسى وفكّر وقدّر وقرّر، فأمر باقتحام عدة مبانٍ وبيوت بعيدة عن المدينة فى ما يشبه ضواحيها البعيدة، أخرج أهلها منها وأمر جنوده بنزع الأبواب الخشبية لهذه البيوت، وكانت عالية وضخمة، ثم حملوها على ظهور دوابهم ووقفوا على حافة الخندق وألقوا بالأبواب كأنها الجسور الخشبية فوق الخندق، وعبرت الخيول بفرسانها عليه وسحقوا جيش محمد النفس الزكية (وبالمناسبة أعدموه). لم يحدث أن حفر المسلمون خندقًا لحماية بلدانهم من غزو أو هجوم.
على كثرة ما مر بالمسلمين من حروب ومعارك وكر وفر وزحف وقوة وضعف وهجوم ودفاع فإنهم لم يلجؤوا إلى هذا الأسلوب العسكرى الذى طبقه النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى المعركة التى سُمّيت بغزوة الخندق.
لماذا؟ لأن التاريخ يعلّمنا أن نتعلم منه لا أن نعيده. لأن المسلمين ينتصرون بالاجتهاد الدينى والإبداع العسكرى والانفتاح السياسى لا بإعادة التاريخ. الخندق كان مجرد معركة ومجرد وسيلة استخدمها النبى للنصر بما استطاع من قوة ومن رباط الخيل ليرهب عدوه. هل من السُّنة والقدوة وشرط التديُّن حفر خندق فى المعارك؟ إطلاقا، لم يفعلها المسلمون بعدها أبدا.
حصلت مرة واحدة فقط، وشوف النتيجة... انهزم من تَخندَق.
المغزى أن الدنيا تتغير، وأن الذى يعتقد أنه يمكن إعادة الزمن إلى الوراء لأن الوراء انتصر إنما يحفر الخندق ولم يتعلم أن الخندق يُحفَر مرة واحدة.