كان أبو جعفر المنصور يجلس يوما مع بعض أهل الشام فقال لهم: ألا تحمدون الله تعالى، إذ رفع عنكم الطاعون منذ وُلِّينا عليكم؟ فردَّ عليه أحد أهل الشام وكان يُدعى «جعونة»: إن الله أعدل من أن يجمعك علينا والطاعون!
ولكن ماذا فعل المنصور مع جعونة؟
هنا اختلف الرواة، بعضهم قال إنه سكت، والبعض الآخر أكد أن جعونة هو الذى سكت إلى الأبد!
المنصور ككل المستبدين كان يظن أن البلاء رُفع عن الناس بفضل حُكمه، وحكمته، ورِضا الله عنه، ففى أول خطاب له بعد صعوده إلى كرسى الخلافة قال: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله فى أرضه.
وعندما سأل أهل الشام كان ينتظر منهم أن يؤمِّنوا على كلامه، ويُشيدوا بعدله وزهده، لكن الرجل الشامى صدمه.
المدهش أن كَتَبَة التاريخ كانوا يمدحون المنصور باعتباره مثالا للزهد والتواضع، ونموذجا يُحتذى به فى كراهية النفاق، ويدللون على ذلك برفضه دفع المال للشعراء الذين يمدحونه. ولهذا قصة تقول: كى يتفادى الخليفة المنصور الإنفاق على الشعراء الذين يمْثلون بين يديه لإلقاء قصائد المدح، فقد اشترط عليهم شرطًا، هو أنه إذا جاء أحد الشعراء بقصيدة يحفظها الخليفة، فإنه لا يعطى الشاعر شيئًا مقابلها، وأما إذا جاء الشاعر بقصيدة لا يحفظها الخليفة فإنه يأخذ وزن ما كتب عليه القصيدة ذهبًا.
ولما كان الخليفة المنصور يتمتع بذاكرة قوية فقد كان يحفظ أى قصيدة عند سماعها لأول مرة، وكان عنده غلام يحفظ أى قصيدةٍ إذا سمعها مرتين، وكانت عنده أيضًا جارية تجلس خلف ستار المجلس تحفظ القصيدة إذا سمعتها ثلاث مرات.
وقد كان الشعراء يقْدمون عليه ويلقون بين يديه قصائدهم، فإذا انتهى أحدهم من قصيدته يكون الخليفة قد حفظها ويرددونها أمام الشاعر فى لحظتها، عندها يخرج الشاعر من مجلس الخليفة وهو يشكّ فى نفسه!
فضاق الشعراء ذرعًا بالخليفة، واجتمعموا يندبون حظهم ويشكون حالهم إلى الأصمعى فعزم الأصمعى وقرر كشف حيلة الخليفة، وذلك بأن نظم قصيدة من الصعب جدا حفظها.
وذهب إلى ديوان الخليفة بعد أن تنكَّر فى زى الأعراب كى لا يعرفه الخليفة وعندما مثل بين يدى الخليفة سأله الخليفة: هل علمت بالشروط؟ قال: نعم، فبدأ الأصمعى يقول قصيدته الأشهر فى صعوبتها «صَوْتُ صَفِيرِ البُلْبُلِ».
وبعد أن فرغ الأصمعى من قصيدته حاول الخليفة أن يستحضر فى ذهنه ما سمعه لكنه عجز، وكذلك الغلام والجارية.
هنا استسلم الخليفة، وقال للأصمعى المتنكر: أحضر ما كتبتَ عليه قصيدتك كى نعطيك وزنه ذهبًا، فقال الأصمعى: كنت قد كتبتُ القصيدة على عمود رخام ورثتُه من أبى وهو موجود على ظهر ناقتى لا يستطيع حمله إلا أربعة رجال أشداء!
فأمر الخليفة بإحضار العمود، ولما وُزن عادل وزنه كل ما فى خزينة الخليفة من ذهب!
فأخذه الأصمعى، ولما همّ بالانصراف صاح الوزير قائلًا: أوقفه يا أمير المؤمنين فوالله ما أظنه إلا الأصمعى، فأمر الخليفة بوقفه وإماطة اللثام عن وجهه، وإذا به الأصمعى، فقال له الخليفة: أتفعل هذا بأمير المؤمنين يا أصمعى؟ أعد الذهب، قال: لا أُعيده إلا إذا عدلت عن شرطك بأن تعطى الشعراء مالًا على ما ينشدونه عليك من شعر سواء كان من أقوالهم أو منقولهم، فوافق الخليفة فأعاد الأصمعى الذهب الذى أخذه. إن الخليفة كان يعشق سماع المديح لكنه كان لا يريد أن يدفع الثمن!