دخلت خندق المتحدثين الرسميين باسم النظام وتكلمت بلسانه ولكن بنعومة أكثر وبخبرة أعمق في «اللف والدوران» حلقة مني الشاذلي مع د. محمد البرادعي لم تكن ستختلف كثيرا إذا ما قدمها تامر أمين بعدما استخدمت أسلوبه نفسه د. محمد البرادعي اللعنة علي السبق الصحفي والانفراد الإعلامي الذي أصبح مجرد مباراة تشبه مباريات كمال الأجسام.. كل لاعب «إعلامي أو صحفي» يستعرض عضلاته ويشهرها في وجوه منافسيه، بكل ما فيها من قبح «بالمناسبة أكره جدا رياضة كمال الأجسام ويستفزني مشهد لاعبيها». الإعلاميون يسعون بجهاد مريب لابتذال كلمة ومعني التغيير.. يحاربون في معركة لا يؤمنون بأهميتها، قدر إيمانهم بقدراتهم وتمكنهم في استعراض عضلاتهم علي جمهورهم.. يلهث كل واحد فيهم لتنميق كلماته، وهو واثق أنه قادر علي توجيه الرأي العام.. أي غرور هذا وأي انتفاخ يملأ نفوسهم؟! كان تامر أمين في الماضي هو الملك المتوج المغرور ، وصاحب السبق والبارع في الهجوم علي كل من تسول له نفسه التجاوز أو حتي محاولة التجاوز علي من فرضوه علينا مذيعا ومنّظرا، والآن اقتحم الحلبة منافسون جدد أكثر براعة ودهاء وحيلة من مذيع الحزب الوطني المتمرس.. دخلت مني الشاذلي خندق المتحدثين الرسميين باسم النظام.. تكلمت بلسانه.. صحيح أنها لم تكن بفجاجة تامر أمين - فهي أكثر نعومة، وأكثر خبرة في أسلوب «اللف والدوران» - أقصد في عرض وجهة النظر الرسمية. حلقة مني الشاذلي مع د. محمد البرادعي، لم تكن ستختلف كثيرا إذا ما قدمها تامر أمين، فقد استخدمت نفس أسلوبه، ولم تكن خبيرة بما فيه الكفاية في أن تمثل دور المحايدة.. خانها ذكاؤها، واستعملت كلمات كبيرة كانت تداري بها خيبة ضعف الأسئلة وركاكة المنطق الذي تتبناه أمام رجل هادئ متزن يرد علي سذاجة الأسئلة والطرح بعمق ورصانة لا تنقص الرجل، ففشلت في تمثيل دور المحايدة ونجحت بجدارة في أن تكون ضد الرجل وضد المتصلين بمقاطعاتها المستفزة وأسئلتها شديدة السخف التي ألقتها علي المتصلين، فتلك امرأة اتصلت لتعلن تأييدها للبرادعي.. تسألها المذيعة بمنتهي السذاجة، عما إذا كان زوجها يعلم إجرائها لهذه المكالمة، وكأن السيدة تتحدث في «كلام أبيح»! فجأة تحولت المذيعة المثقفة إلي ربة منزل تسأل امرأة مؤيدة للبرادعي، وكأنها تقول لجارتها: «جوزك عارف الموضوع ده ولا لأ يا هانم.. هه.. ردي يا ست يا محترمة؟!»، ثم ما هذه الحالة من الرعب التي ظلت طوال الحلقة تبثها في نفوس المؤيدين للبرادعي سواء من المتصلين أو المشاهدين الجالسين في بيوتهم، فبعد أن أدت دورها في الإبلاغ عن هويدا طه منتجة الأفلام الوثائقية بقناة الجزيرة، والتي لم تذكر سوي أنها هويدا من القاهرة، قالت لها المذيعة - ولا أجدعها مخبر-: «أنا باشبه علي الصوت ده.. أنتي هويدا طه من قناة «الجزيرة» - ولم تنس تعطيش الجيم- ثم تابعت بلهجة أمين شرطة مخضرم هذه المرة: «أنتي أخدتي براءة ولا غرامة.. يعني مفيش عليكي أي أحكام؟»، وأخيرا تلبستها روح قاض واثق، وقالت: «بعد المكالمة دي استني حكم.. انتظريه». وهذه مداخلة مع المخرج السينمائي أحمد ماهر، تقول له المذيعة التي كانت حقا غريبة الأطوار في هذه الحلقة: «إنت أحمد ماهر المخرج السينمائي.. اللي فيلمك أخد تمويل من وزارة الثقافة المصرية.. ورحت تقابل البرادعي في المطار؟! طب أبقي قابلني لو الفيلم اتعرض».. ما هذه اللهجة؟! فهذا هو البلاغ الثاني الذي تقدمه المذيعة لأولي الأمر في الحلقة! حالة الرعب التي بثتها مني الشاذلي طوال الحلقة، لا تفسير لها سوي تخويف الناس من فكرة تأييد البرادعي أو مساندته، ويبدو أنها هي شخصيا كانت مرعوبة من الحلقة، حتي إنها قالت في نهايتها بأداء تمثيلي مفتعل يوحي بأنها ستُعاقب علي الحلقة: «بعد حلقة النهاردة إنشاء الله.. إنشاء الله.. نشوفكم بكرة علي خير إنشاء الله»! وهذه الرسالة مزدوجة المعني، فأولا ترغب المذيعة بعد انحيازها المطلق لوجهة النظر الرسمية، وحديثها بلسان النظام، أن تخرج من الحلقة مناضلة، رغم أن المتصلات من ربات البيوت كن مناضلات أكثر منها بمراحل، بل ومستعدات لتحمل تبعات تأييدهن للبرادعي أكثر منها مليون مرة، وثانيا الرسالة موجهة للعاديين من الناس، فإذا كانت المذيعة الكبيرة والإعلامية المشهورة خائفة علي نفسها من بطش أولي الأمر، فماذا سيكون حال رجل لا سند له ولا «ضهر»؟! ولم تخل الحلقة طبعا من إصرار المذيعة علي بث معلومات خاطئة أو التشويش علي معلومات صحيحة.. د. علاء الأسواني أكد لها أن الآلاف كانوا في استقبال البرادعي في المطار.. أصرت هي علي أن مستقبليه كانوا بضع مئات، وهو ما فعلته مع المخرج أحمد ماهر أيضا الذي قال لها إن مستقبلي الرجل كانوا بالآلاف، فأصرت مرة أخري أنهم كانوا مئات، ونسيت أن من يتحدث معها هذه المرة مخرج يعرف جيدا كيف يقدر عدد المجاميع! ولا أدري ما هذا الإصرار علي التأكيد أن مستقبلي البرادعي في المطار كانوا قلة! ظهور د. محمد البرادعي وتصدره للمشهد السياسي في مصر كشف الكثير، لكن أجمل ما حدث أنه أظهر في الإعلاميين أسوأ ما فيهم.. أظهر المخفي في نفوس وضمائر لا تختلف كثيرا عن تلك التي يهاجمونها ليل نهار.. فها هي مني الشاذلي تلعب دور المرعوبة من الحلقة «الجريئة» التي قدمتها، بينما تعرف جيدا أن السماح لها ولغيرها باستضافة البرادعي في البرنامج تم بعد إعطاء ضوء أخضر بالسماح بالاستضافة، لكن محاولتها الفاشلة في إظهار الرعب هو أيضا رسالة موجهة للناس، لينتقل الرعب إليهم بالعدوي. هذه رسائل موجهة تعرف جيدا إلي من توجه وكيف توجه، وما وقعها لدي الناس.. خبث ومكر يليق بالنظام وجنوده المكشوفين والمخفيين. لا أتحدث هنا عن رجال الحكومة والنظام المزروعين في الإعلام، فوضوح هؤلاء يجعلهم متسقين مع أنفسهم، ويجعلنا نحترم وضوح توجههم وشفافية انحيازهم، لكني أتحدث عن آخرين كنا نصدق ونؤمن أنهم كانوا ذات يوم في صفوف الناس.. يحاربون في معاركهم ويتبنون قضاياهم، فسقطت الأقنعة وكشف البرادعي ضبابية انحيازهم وكذب توجهاتهم، فالواضحون يمكن الرد عليهم بنفس وضوحهم، وبنفس فجاجتهم، أما الذين يرتدون أقنعة، ويتسحبون خلف قطعان النظام، وهم متخفون في زي مساكين يضحكون علي الساذجين من جمهور المشاهدين، ثم يهجمون فجأة عندما يحتاجهم النظام، فخطرهم مزعج، لأنه يأتي من أشخاص يعرفون أنهم يتكسبون بالطنطنة بمصداقيتهم ويغترون بقدرتهم علي جذب مزيد من الاتباع سيستخدمونهم بالتأكيد في خدمة نظام جندهم من البداية، ولنا في مفيد فوزي الذي كان أشهر ديكور معارض في التليفزيون المصري خير دليل، فقد احترق الكارت، وها هي الكروت الجديدة في طريقها للاحتراق أيضا. كانت المرأة الثلاثينية في مطار القاهرة، والتي جاءت من بنها لاستقبال البرادعي دون خلفية اجتماعية أو قناة فضائية أو صحيفة تدعم موقفها الحاد، أكثر صدقا وجرأة واحتراما من كل إعلامي يحتمي بالنخبة ويستجير بها أمام محاولة ترهيب أو تلويح بترهيب. أتصور أن حلقة مني الشاذلي مع د. البرادعي والتي كان لها هدف واضح، وهو تسبيط همة وعزيمة هذه السيدة التي قررت أن تخرج دون سند، هو جريمة سيعاقبها التاريخ عليها - فالحاضر السعيد الذي نعيش فيه لن يعاقب أحدا- محاولة بث مشاعر اليأس في نفس هذه السيدة جريمة حقيقية سيكسب أحفاد هذه السيدة قضيتها في الجولة الأولي. التاريخ سيعاقب إعلامي النظام وأرزقيته بما يليق بهم، دون ضجة، لأنهم لا يستحقون، لكنه سيشّهر ويجرّس ويفضح كل من ارتدي قناع الحكمة - وعمل نفسه عاقلاًً- أمام هذه السيدة، وأمام شباب فقد الأمل و«طلعت» روحه في هذا البلد، فخرج باحثا عن أمل في تغيير، ولم يتركه الإعلام الموجه يسعي بعد أن رفع شعار: «اسعي يا عبد وأنا أسعي معاك»، وبدلا من أن يشجعه ويأيده، قرر بعض الإعلاميين «إن مفيش فايدة».