السؤال هنا: لماذا عزل عمر خالدَ بن الوليد؟ طبعا يُكثِر المؤرخون من محاولة الصلح بين عمر وخالد فى أذهانهم وكتبهم، والبحث عن أسباب لا تطعن فى قدرة عمر على العدالة ولا تضرب فى عظمة خالد العسكرية، وفى هذا تجد الكثير، لكن من وجهة نظرى أن قرار عزل خالد كان مدهشا فى حكمته وصوابه، فالحقيقة أن خالد كان مقاتلا عبقريا وفارسا عظيما، لكنه لم يكن قائدا سياسيا ولا رجل دولة، والمكسب فى الحروب جائز بالقائد العسكرى لكن المكسب بعد الحروب وفى السلام وبناء الدولة لا ينفع إلا برجل السياسة والحنكة والحكمة والقدرة على الاحتواء والتطمين. خالد لم يكن كذلك، لم يكن سياسيا قط، وهناك خوف حقيقى من تعامله كقائد عسكرى منتصر مع أهل البلاد المفتوحة، حيث يفتقر إلى قدرة السياسى على إدارتهم والتعامل معهم، ثم هو رجل قتل منهم وأصاب، بل هناك موقعة سُميت «العيون» لأن خالد وجه السهام كلها إلى عيون جيش أعدائه ففقأ عيون قرابة ألف، فهل ممكن بعد ذلك أن يكون حاكما لهم ومدبرا لشؤون حياتهم اليومية؟ عمر أدرك أن دور خالد انتهى كعسكرى، ثم إن خالد فخور ويدلل نفسه ويرفّه عنها كرجل يضع رأسه كل يوم أمام ملك الموت، من هنا يتلذذ بالدنيا، بالحلال صحيح، لكن برفاهية لا يحب عمر وجودها ولا إضفاء المصداقية عليها ولا جعلها قدوة لأنها صادرة من رجل مثير للإعجاب، حتى لو كانت هناك جذور الخلافات القديمة بين عمر وخالد فى الجاهلية، بل وفى الإسلام، إلا أن عمر هنا يقدم أسبابا حقيقية ووجيهة ومنطقية، ثم هو فى بداية عهده وحكمه وجيوشه فى المعركة، فلن يستغنى عن قائد مهما كانت ملاحظاته عليه وفى توقيت مثل هذا، خاسرا جهوده ونبوغه إلا لأسباب وأدلة شديدة الوجاهة، ثم كان خالد بن الوليد بالنسبة إلى عمر نموذجا ممكن أن تعتبره رأس الذئب الطائر لو أحببت، فها هو ذا قائد مغوار ومنتصر جبار أطيح به لأسباب العدل والعدالة، كأنه يقول: «قرارى نافذ فلا يغتر أحد بقوته ولا بانتصاره ولا بمكانته، فالكل أمام عدل عمر سواء». ثم إن انعقاد مجلس الشورى ومشورة أهل الرأى لم تكن على سبيل الإحسان والتبرع، بل إن عمر صرح بوضوح فى أكثر من مناسبة بأن الخلافة لا وجود لها إطلاقا إلا بالشورى، ومن كلماته الخاصة فى هذا الصدد: «لا خلافة إلا عن مشورة». وفضلا عن أعضاء مجلس الشورى فقد كان لعامة الرعايا دخل فى الشؤون الإدارية وكان حكام الأقاليم والولايات يعيَّنون برضا أكثر الرعايا، بل إنها كانت تتم فى بعض الأحيان بطريقة الانتخاب، فعندما بدؤوا تعيين عمال الخراج فى الشام والبصرة والكوفة أرسل عمر الأوامر إلى تلك الأقاليم الثلاثة لكى يختار الناس كل شخص يفضلونه ثم يبعثوه إليه، على أن يكون أولئك الناس أكثر جدارة لديهم، وقد ذكر القاضى أبو سيف هذه الواقعة بهذه الكلمات: «كتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة أن يبعثوا إليه رجلا من أخيرهم وأصلحهم وإلى أهل البصرة كذلك وإلى أهل الشام كذلك، قال فبعث إليه أهل الكوفة عثمان بن فرقد وبعث إليه أهل الشام معن بن يزيد، وبعث إليه أهل البصرة الحجاج بن علاط، قال فاستعمل كل واحد منهم على خراج أرضه». وكانت الوفود تأتى كل عام من المراكز وكان الهدف منها هو إطلاع الخلافة على كل أنواع الشكاوى وأحوال الدولة، ويراد من هذا العدل والإنصاف، وقد أعلى عمر هذا الحق بنفسه فى مناسبات عديدة حتى إنه خطب خصيصا لهذا الغرض فى حشد عام وصرح بذلك أيضا فى أوامره، وكان يعقد مؤتمرا عاما للمحاسبة والمساءلة مع عماله فى موسم الحج، إن أهم شىء فى إدارة الحكم هو أن تستقل جميع التنظيمات الإدارية المختلفة الواحدة عن الأخرى، وهذا أكبر دليل على التمدن والرقى، ففى بداية الدولة كانت التنظيمات الإدارية كلها متشابكة ومتداخلة، فمن يحكم الإقليم كان هو نفسه القائد وقت الحرب وهو نفسه الذى كان يقوم بعمل القاضى فى الحكم فى القضايا، ويقوم بمهمة البوليس أيضا فى العقاب على الجرائم، وبتطور الحضارة أسست إدارات مستقلة وعين على كل إدارة قائد مستقل، وهذا أحد إنجازات عمر المعجزة، فعلى الرغم من أن حضارة العرب فى ذلك الوقت كانت فى حالة بدائية للغاية ولم يكن قد انقضى على الحكم سوى بضع سنوات، فإنه أقام إدارات منفصلة لكثير من الأقسام المتداخلة. لقد أسس الدولة ليس فقط منطلقا من علمه وعدله النابع عن فهمه وإدراكه للدين، بل كذلك بنظم الدولة الحديثة وأساس التنظيم والمناهج المتبعة فى دول وبلدان هو نفسه الذى غزاها بجيوشه وفتحها بجنوده ثم تعلم منها بوعيه وعقله!