بنجاح ثورتي الياسمين والفل في تونس ومصر في إسقاط الطاغية المتسلط، وقرب تحقيق الانتصار ذاته في ليبيا، ثار الأمل في أن تشكل تونس ومصر وليبيا، "إقليم قاعدة" متصل جغرافيا لقيام نهضة إنسانية في الإقليم، وعبره إلى عموم الوطن العربي، من خلال تبلور المشهد المفتتح لمسيرة "الازدهار الإنساني" حسب تقرير "التنمية الإنسانية العربية" الثالث الذي يفضي إلى إقامة البنى القانونية والمؤسسية الكفيلة بإقامة الحكم الديمقراطي الصالح سبيلا إلى التنمية الإنسانية. ولكن يثور الآن خطر أن ينقلب الإقليم المعني إلى إقليم قاعدة للإسلام المتشدد من خلال غلبة التيار الإسلامي المتشدد في الساحة السياسية، وفي المجالس التشريعية الجديدة بعدالثورة، ما يسمح له بتشكيل محتوى الدساتير الجديدة والقوانين المشتقة منها بما يتفق وتوجهاته السياسية والتي قد لا تستقيم مع إسلام العقل والعدل والإخاء والمساواة والمحبة والتراحم، كما تنص المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، وليس أحكام الفقه التي تنطوى على الغرض والهوى، وتنزع لنتطبيقات الفقه المتشدد الذي يتضارب مع هذه المقاصد الرائعة. فمن المهم ملاحظة أن القوي الفاعلة في المرحلة الانتقالية في حالتي تونس ومصر، المتقدمتين على مسار التحرر من الحكم التسلطي قد انقسمت بين فصائل التيار الإسلامي المتشدد وغيرهم. في حالة مصر، على التحديد، يثور خطر أن تصميم المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتحالف التيارات الإسلامية المتشددة على انتخاب مجلس الشعب والشورى أولا وقيامهما تحت إشراف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم خلال الفترة الانتقالية، بوضع الدستور الجديد، وخاصة في ضوء تمكين السلطة الانتقالية للتيارات الإسلامية المتشددة من تصدُّر الساحة السياسية، والموافقة على تنظيم نفسها في أحزاب، على الرغم من النص في القوانين المعنية على عدم جواز قيام الأحزاب على أساس ديني. واللافت للنظر أن تشكيل الأحزاب من قبل التيار الإسلامي المتشدد لم يتسم بأخلاقيات الإسلام السمحة، فقد اتهم حزب الفضيلة السلفي حزب الأصالة السلفي ب'اغتصاب 3500 توكيل خاص به'، مهددا باللجوء للقضاء لحسم الأمر. كما بدا تحالف الفصائل الإسلامية المبدئي يتفتت وينهار في خضم التنافس السياسي"الدنيوي". وينطوي ذلك الواقع المستجد على الساحة السياسية على خطر أن تتغلغل في الدستور الجديد توجهات الإسلام المتشدد بالانتقاص من الحقوق المدنية والسياسية للنساء وغير المسلمين افتئاتا على بعض المبادئ الحقوقية المستقرة في منظومة حقوق الإنسان من عدم جواز التمييز بين البشر، خاصة في الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين. بينما تنصب "المرجعية الإسلامية" للدولة في عرف التيار الإسلامي المتشدد، في المقام الأول، على تطبيق الشريعة بالمفهوم الشكلي المتمثل في تطبيق الحدود، ولو من دون توافر شروطها، وفي حماية العفة الظاهرية (التحجب والحشمة في اللباس ومنع الخمور ومنع القبلات والمشاهد الحميمة في الأعمال الفنية وحجب التماثيل) بدلا من إسلام العقل والعدل والإخاء والمساواة والمحبة والتراحم. وفي حالة تونس، تفجرت معارك كلامية وتظاهرات متضادة كبيرة حول قضية الحقوق الشخصية لا سيما للنساءن وقامت قوى سلفية بالاعتداء على كلية جامعية وعلى مقر قناة تلفزيونية، وإحراق نزل مديرها،عندما اختلفت مع هذه الجهات في مواقف. أما في حالة ليبيا، فقد تأكد انقسام مماثل داخل معسكر الثورة المنتصرة على طاغوت ليبيا من حيث أن الثوار المسلحين ينتمي كثرتهم لتيار الإسلام الجهادي. فقد تبين مثلا أن القائد المعين للمجلس العسكري على طرابلس هو الأمير السابق في الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية (الجماعة) والذي كانت المخابرات الأريكية قد اعتقلته وسلمته لنظام القذافي لسجنه سنوات. وف ي هذا ما أبرز الانقسام في صفوف الثوار بين تيار إسلامي متشدد تحمَّل جُل عبء القتال وآخر "علماني" تحيط ببعض قياداته شبهات التبعية للتحالف الغربي وحتى للطاغية المخلوع. ولا يستبعد أن يكتسب التيار الإسلامي المتشدد دعما من معارضة التدخل الغربي الذي حارب في صف الثوار من خلال حلف شمال الأطلنطي ضد نظام الطاغية الفار، والتي لابد ستشتد مع تزايد الدلائل على أطماع الحليف الخارجي في البلد وثروتها النفطية واستعداد المجلس الانتقالي للتنازل عن بعض الثروة وربما السيادة، غنيمة مستحقة للحليف المحارب الأجنبي. وفي سورية طالما ادعت السلطة أن فصائل إسلامية تقف وراء الانتفاضة الشعبية. وفي الأردن بدت علامات انشطار مقابل في فعاليات الاحتجاج الشعبي. والاستنتاج هو أن هذا الانشطار بين الفصيل الإسلامي المتشدد وباقي فصائل التحرر من الحكم التسلطي ربما سيظل مؤثرا على ساحة الحراك السياسي، من خلال غلبة التيار الإسلامي في مجريات الترتيبات القانونية والمؤسسية والحكم الديمقراطي، ومن ثم يؤثر على فرص النهضة الإنسانية في الوطن العربي، لسنوات قادمة. ويتمثل أحد أخطر تبعات هذا الانشطار في حال غلبة الفصيل الإسلامي المتشدد في دوائر صنع القرار في البلدان العربية الثلاثة كلها، التي كنا نتمنى أن تشكل إقليم القاعدة المأمول للنهضة الإنسانية في الوطن العربي. إذ في هذه الحالة، يمكن أن يشكل الإقليم قاعدة لمد إسلامي متشدد ومحافظ يتقهقر بالمنطقة العربية بعيدا عن متطلبات التحول إلى الحكم الديمقراطي الصالح القائم على المواطنة المتساوية، وهي الشرط للازم لبدء مسيرة النهضة في مفهومنا، وبعيدا من ثم، عن مسار الإصلاح المجتمعي الكافي لقيام النهضة الإنسانية في الوطن العربي. ويزيد من تبعات هذا الاحتمال أن هذه الفصائل تؤمن بالأمة الإسلامية، العابرة لحدود الدول القومية، ومتمرسة، من ثم، في "الجهاد" عبر الحدود الدولية. كما تتوافر فعلا امتدادات للتوجه السياسي في بلدان أخري غير الثلاثة التي ذكرنا، خاصة في شمال أفريقيا مثل الجزائر والمغرب وموريتانيا.