تمور بلدان عربية عديدة بمد تحرري, يستهدف غايات الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع, ويقوم علي انتفاضات شعبية باهرة, بأساليب سلمية وراقية حضاريا, كان الشبيبة العرب المهمشون في ظل الحكم التسلطي, طليعتها, ونوار شهدائها. لم تشهد المنطقة, بل لم يشهد العالم أجمع, مثل هذا المد التحرري الكاسح في مثل هذه المنطقة من العالم منذ عقود, حتي صارت المنطقة تذخر, وتتفاخر, بانتفاضات شعبية, سلمية وملهمة, تتأسي بها حركات تحررية في جميع أنحاء العالم, من أمريكا إلي الصين. وقد بلغ هذا المد حال كونه بدايات ثورة شعبية بكل معني الكلمة علي الحكم التسلطي- حكم الفساد والاستبداد الذي جثم علي صدور العرب طوال عقود الانحطاط والهوان الطويلة- علي الأقل في بلدين عربيين في الشمال الإفريقي, تونس ومصر, في مطالع العام الحالي مسقطا المتسلط الأكبر في اثنين من أعتي النظم الاستبدادية العربية وأطولها عمرا(32 و32 عاما متصلا, علي الترتيب), بمعدل واحد كل شهر تقريبا منذ مطلع العام الحالي, ويكاد يبلغ المكانة ذاتها في بلد عربي ثالث يقع في وسطهما جغرافيا, وإن بتكلفة ضخمة نظرا لتعنت المتسلط المهووس فاقد الصلة بالشعب وبالواقع علي حد سواء, الذي استبد بالبلد أطول من أربعين عاما. وبالسقوط الوشيك للاستبدادية الثالثة هذه, وبانتصار الثورة في البلدان العربية الثلاث علي احتمالات الثورة المضادة بواسطة فلول نظم الحكم التسلطي البائدة, يمكن أن تشكل تونس ومصر وليبيا, إقليم قاعدة متصل جغرافيا لإقامة نهضة إنسانية في عموم الوطن العربي, بتبلور المشهد المفتتح لمسيرة الازدهار الإنساني حسب تقرير التنمية الإنسانية العربية الثالث الذي يفضي إلي إقامة البني القانونية والمؤسسية الكفيلة بإقامة التنمية الإنسانية. ويقوي هذا الإمكان بامتداد الثورة الشعبية التحررية إلي مشارق الوطن العربي ومغاربه, وليس بالاحتمال البعيد. ومن حسن الطالع أن قامت بين الثورات الثلاث, وبينها وبين إرهاصات انتفاضات شعبية في أقطار عربية أخري, علاقات تقدير متبادل, ودعم متواتر, ولو علي البعد. فقد اندلعت تظاهرات الشباب في ليبيا واليمن والبحرين, بعد أقل من أسبوع من سقوط طاغية مصر في اليوم المشهود11-2-2011, وفي المغرب بعد عشرة أيام. علي أن اكتمال النضج التحرري في الإقليم القاعدة المأمول ما زال يواجه مخاطر قد تفتح الباب علي مسارات تبتعد عن مسار النهضة, ولو إلي حين, أو ترفع من تكلفته. ما يوجب, لضمان شمول النظر في بدائل مستقبل الوطن العربي, اعتبار مسارات مستقبلية مختلفة عن أقصر الطرق وأنجعها لقيام نهضة إنسانية في عموم الوطن العربي تتويجا للثورات الشعبية الثلاث, وما قد يليها. لكنني أزعم أن السهم قد نفذ, والوقت انقضي, بالنسبة لدول الحكم التسلطي في الوطن العربي, علي الرغم من بعض جيوب المقاومة التي ما فتئت تقاوم المصير المحتوم ولو بارتكاب فظائع هي جرائم ضد الإنسانية يندي لها جبين أي إنسان له في الصدر فؤاد, كما في ليبيا( بقصف المدنيين بالمدفعية الثقيلة ومن الجو البحر) واليمن( حيث تنتشر دعاوي باستعمال غازات سامة علي المتظاهرين) والبحرين( بدعم من جيوش دول خليجية أخري). ومن الضروري هنا التأكيد علي أن الثورة علي الحكم التسلطي ممتدة علي الصعيد العربي الواسع, ومتآزرة, فالاحتجاج الشعبي في أي قطر يستمد الإلهام والعون المعنوي من انتشار المد التحرري في عموم الوطن, ويشتد أزره بانتصار قوي التحرر في بعض أمصاره. والمؤكد أن شكل الانتصار علي الحكم التسلطي سيتفاوت من بلد عربي لآخر حسب الخصوصيات, فسيأخذ شكل جمهورية برلمانية في البعض, وملكية دستورية في البعض الآخر, كما نري عددا من أنظمة الحكم التسلطي يهرول بطرح مثل هذه الإصلاحات بوتيرة متسارعة مع تصاعد الحراك الاحتجاجي, أو لدرء تفاقمه, كما في اليمن والمغرب والبحرين. ولكن في جميع الأحوال, يبقي القرار للشعب الذي ثار وأصبح عصيا علي التدجين مرة أخري. لا يعنينا كثيرا تفاوت شكل الانتصار علي الحكم التسلطي في منظور إمكان قيام النهضة الإنسانية في عموم الوطن العربي, مادام انتهي الانتصار إلي إقامة البني القانونية والمؤسسية لحكم ديمقراطي صالح يعبر عن إرادة الشعب, ويحرص علي حقوقه وعلي المصلحة العامة, ويخضع للمساءلة الشعبية الفعالة. وهناك مجال واسع وخصب للشعوب العربية لأن تتعلم من بعضها, ويؤازر بعضها البعض, في هذا المسعي, متي ما احترمت أصول الحكم الديمقراطي الصالح. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى