جلست على زرع أخضر مبلل بندى الأمل بناء على دعوة من مجموعة وجوه شابة فى جزيرة بميدان التحرير وحولى شباب أعرفهم وعرّف الآخرون أنفسهم لى من الليبراليين والاشتراكيين والإخوان وكذلك كمال أبو عيطة الوجه الناصرى الأبرز والناشط اليسارى وائل خليل، كانت الدعوة لمناقشة ماذا نفعل. كنت مدهوشا بالفعل، فالتوقعات لم تكن تذهب أبعد من مظاهرة ضخمة أو وقفة كبيرة ضد الداخلية ودولتها ومن ثم لم يكن أحد يعرف ماذا يفعل الآن! صحيح أنه لم يكن لأحد أن يقول فى 25 يناير إنه قادر على إدارة هذه الآلاف التى حررت ميدان التحرير. صحيح أنه كانت هناك دعوة. وصحيح أن فريقا من شباب تيارات سياسية أداروا الدعوة. لكن فى مساء الثلاثاء 25 يناير كان ميدان التحرير تحت سيطرة الشعب وكل فريق سياسى قادر -إن قدر- فقط على الحوار مع أعضائه، بل انقسمت كل الفرق السياسية كذلك بين رجالها وقياداتها من ناحية وشبابها من ناحية أخرى، ولمفاجأة الحشد وبلوغ المظاهرات حدا لم يتوقعه أحد يومها فإن من امتلك الدعوة امتلك الجرأة ليطلب من فريقه الحاكم أن يسمع كلامه... ظهرت فى اجتماع النجيلة عدة أفكار. الأولى الاعتصام، ومع الفكرة وُلدت الأسئلة: نعتصم لماذا؟ وإلى متى؟ الثانية الاعتصام حتى منتصف الليل ثم الفض لدعوة جديدة للتظاهر. الثالثة قائمة مطالب المظاهرات أو الاعتصام (أدرك المتظاهرون ثم مصر كلها أن المظاهرات لم تكن تحمل مطلبا حتى الآن إلا هذا المعنى العام الواسع «حرية عدالة كرامة إنسانية» الذى رفعه متظاهرون فصار إلى حد كبير هتافا موحدا ليوم 25 يناير). استقر المجتمعون على الاعتصام ومن ثم كانت محاولات الإجابة عن سؤال «لماذا» تقود للإجابة عن سؤال «متى»، لماذا؟ لأن لدينا مطالب (سوف يجرى تحديدها حالا)، وإلى متى؟ حتى تنفيذ المطالب. إذن... كيف تتوحد الجموع؟ وكيف تصمد؟ فظهرت فورا الحاجة إلى إذاعة، وصار الهم الأول هو البحث عن ميكروفون! وبذل الجميع كثيرا من الجهد فى البحث عن الكاتب الصحفى والمناضل السياسى المثير للإعجاب والاحترام محمد عبد القدوس، الرجل الذى تم سحله ظهرا والقبض عليه أمام مبنى نقابة الصحفيين، الشهير بمشاركته فى كل مظاهرات واحتجاجات مصر حاملا علما وميكروفونا كان بمثابة سلاحه المدنى الأكثر تأثيرا والأشهر حضورا فى كل الساحات السياسية، كان محتجزا، والاحتياج لميكروفونه كان احتياجا وطنيا جامعا حينها فى ميدان التحرير. ثم كانت الإعاشة بمعنى الطعام والغذاء للمعتصمين على جدول أعمال الاجتماع، ومن ثم جاء الاقتراح بجمع التبرعات التى بلغت عدة مئات من الجنيهات، تم اختراق الحصار وشراء أطعمة عبر عدة شبان حاولوا الدخول مرة أخرى إلى الميدان فمنعتهم الشرطة، ثم صادرت آلاف السندويتشات التى كانوا يحملونها، والعجيب أنها وزعتها على أفراد الشرطة من الجنود والعساكر الذين كانوا يتضورون جوعا هم الآخرون بعد يوم طويل وشاقّ. لم تكن ذات الأفكار بعيدة عن مجموعات أخرى تتشكل فى المئة والخمسة والعشرين ألف متر مربع مساحة ميدان التحرير. مَن يعلن المطالب إذن؟ فى قلب الميدان وقف كمال أبو عيطة على سور إحدى جزر الميدان وسط حشد يتزاحم حوله على حافة السور يدلى بمطالب المظاهرات! تكونت أكثر من إذاعة، هناك مجموعة علقت ميكروفونا فى أعلى إشارة المرور الموجودة بميدان التحرير.. وأطلقت عليه «إذاعة الميدان»، إذاعة دولة الميدان، آخرون أقاموا منصة وإذاعة ووضعوا برنامجا للإذاعة كان أهم ما فيه فقرات للموهوبين، وكانت هناك لجنة من الشباب تشترط سماع الأغانى أو الأشعار حتى تضمن جودتها الفنية وإجادتها الثورية، كمية الأشعار التى سمعتها كانت كبيرة جدا، كل الناس تكتب شعرا، لكن الأجمل من الشعر الصدق فى الكلمات والحماس فى الإلقاء، هناك ناس كتبت قصائد جميلة أقسمت بالله أنها أول مرة تكتب، ثم قام شاب برسم كاريكاتير وعلّقه على عمود بالميدان فتوجه إليه أكثر من شخص بأكثر من رسمة فكونوا مجموعة فنانى الثورة. أكثر من هذا جدا سيحدث فى أيام ميدان التحرير التالية، لكن 25 يناير كان الموجز المنجز لكل الخيال الذى تفجر والذى سيتفجر! السؤال الآن: أين كان كل هؤلاء الذين يقتلون حرية الإعلام الآن من تلك اللحظات التى قرر فيها الثائرون إقامة إعلامهم الحر المتحرر المنير المنوّر؟ أين كان القائمون القاعدون المنحنون الراكعون المتسلقون المتلونون الأفاقون المنافقون الجالسون على كراسى تحكم إعلامنا والماسحون للبيادات والملمعون للدبابير يوم كانت الثورة تصنع إذاعتها فى الميدان؟! إن الوزراء الذين ضللوا الشعب فى عصر مبارك يقبعون الآن فى السجن، ومَن يضلل الناس بعد ثورة يناير سيقبع قريبا فى صناديق القمامة!