أكثر المؤسسات انضباطا فى مصر هى القوات المسلحة. المجلس العسكرى يضم و يشرف على أفضل خبراء الاستراتيجية والتحليل والتخطيط والإعداد والإدارة. إن إعداد البلد ، شعبا وموارد وهيئات وجنود لخوض معركة مسألة معقدة، وتحتاج تحديدا كاملا لإمكانيات البلد، ورصدا دقيقا لموقف العدو، و تنمية مدروسة لمواطن القوة، و سدا للثغرات. واتخاذ قرار الحرب يحتاج بجانب الاستخدام الصحيح للإمكانيات، إيمانا راسخا بإمكانية تحقيق النصر بإذن الله. ولايكفى لاتخاذ قرار الحرب أن تنتظر حتى الوصول إلى تفوّق أعلى من العدو، بل يكفى أن تكون ذا تفكير مستقبلى وتتوقع رد فعل العدو قبل أن يبدأ، فتفقده قوة المفاجأة. ولايكفى أن تمتلك السلاح لتضمن الفوز. بل يجب أن تعرف كيف تستخدم السلاح الذى بيدك أفضل استخدام، والأخطر من ذلك أن تعرف العدو الذى عليك أن توجه السلاح لصدره. وهاقد تولى المجلس العسكرى حكم البلاد ، أو إدارتها طبقا لتكليف المخلوع، فماذا سيقول التاريخ بعد عقود من السنين عن هذه الفترة؟ هل أفلح المجلس فى إدارة شئون مصر؟ أمامنا مثل واضح لكيفية إدارة الأزمة فى تأميم قناة السويس، وكانت أعمارجمال عبد الناصر و رفاقه جميعا فى بداية الثلاثينات باستثناء محمد نجيب الذى لم يكن مشاركا فى اتخاذ قرار التأميم. عندما نكص البنك الدولى عن تمويل بناء السد العالى كان لابد لعبد الناصر من اتخاذ قرار يجمع بين تأكيد الاستقلال والسيادة، وتحدى القوى العالمية التى تريد إخضاع مصر لشروطها. وفى نفس الوقت يوفر مصدرا جديدا لتمويل بناء السد. وفوق كل ذلك يحقق الإجماع الوطنى ويشعل حماس الجماهير ويحفزها إلى العطاء والبذل والتضحية بالجهد والعرق.. ولم يكن هناك أفضل من تأميم قناة السويس. وبقدر ماكانت الفكرة عبقرية فقد كان التنفيذ أيضا أكثرعبقرية. كلنا نعرف كيف أُعِدّت مجموعات الاقتحام ووُزّعَت قريبا من مقرات الهيئة فى مدن القناة الثلاث قبل أيام من خطاب عبد الناصر الشهير، وما إن نطق عبد الناصر كلمة (ديليسبس) فى سياق حكايته لقصة القناة حتى قامت المجموعات بدورها فى الاستيلاء على المقرات بما تحويه من مستندات ومعدات وخزائن، وعند اعتراض المسؤلين الأجانب قيل لهم اسمعوا: كان عبد الناصر لحظتها يصرخ: قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لتأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية ! وكانت هذه اللحظة شرارة الإشعال التى ألهبت حماس المصريين طوال حكم عبدالناصر. نسافر فى الزمان حتى نصل إلى يوم الخميس، العاشر من فبراير سنة 2011.. مع آخر كلمة من الخطاب الأخيرللمخلوع ارتفعت الأحذية فى التحرير وضجت ميادين وشوارع مصر بالغضب والرفض.. ساعتها أيقن مبارك أنه لابقاء له فى كرسى الحكم، وأدرك المجلس العسكرى الذى كان فى اجتماع مفتوح كما أعلن فى بيانه الأول أنه قد حُمّل أمانة الحكم الانتقالى فى البلاد. ثمانى عشرة ساعة مرت، مابين انتهاء مبارك من خطابه وإذاعة الكلمة المسجلة للسيد عمر سليمان التى يعلن فيها رسميا انتهاء حقبة حكم حسنى مبارك لأرض الكنانة. إن أحد أهم مظاهر العبقرية فى حرب اكتوبر المجيدة مع الإعداد الجيد كان مفاجأة العدو. فهل أدرك المجلس العسكرى عندما قرّر هو بإرادته، أو كٌلّف من قبل حسنى مبارك طبيعة مهمته؟ هل أعد خبراء الاستراتييجة فى المجلس العسسكرى خططهم لإدارة البلاد؟ لا يعقل أن يدعى البعض أن المجلس فوجىء بالتركة تلقى على كاهله. ولا يعقل ألا يكون المجلس قد وضع فى حسبانه، منذ جمعة الغضب وليس من الليلة الأخيرة، أن هناك احتمالا بأن يتولى الحكم.. فمهمة القوات المسلحة الأساسية هى فن التوقع. ويقولون إن معرفة (مونتجومرى) بطريقة تفكير (روميل)، وإعداد قواته لمواجهة الخطوة التالية لروميل قبل أن يبدأها هى سر انتصاره فى معركة العلمين. فماذا فعل المجلس العسكرى فى تلك الساعات الثمانى عشرة؟ هل فعل ما كان يجب عليه أن يقوم به؟ لماذا رفض الشعب غالبية قرارت المجلس العسكرى منذ ذلك و حتى اليوم؟ من الفجوات التى باعدت بين مبارك وشعبه أن كلا منهما كان يضع قائمة مختلفة لأولوياته ويحارب عدوا غير الذى يحاربه الآخر. عدو الشعب المصرى الأساسى هو إسرائيل، كان الشعب يريد من مبارك أن ينحاز لجبهته وللجبهة العربية فى غزة وفى لبنان، بينما كان حسنى مبارك يفعل عكس ذلك لأنه لايرى فى اسرائيل عدوا، بل كانت هى الحبيب الأوحد له ولنظامه. كانت أجهزة الأمن فى عهد مبارك تبذل الكثير من الجهد والعرق والتخطيط والتنفيذ لقمع حركات المعارضىة الرافضة للتوريث معتبرة إياها العدو الأول للنظام، الذى هو مصر. لذلك لم تكن أجهزة الأمن ترى فى نفسها تقصيرا أوفى سلوكها شذوذا، فهى تقوم بما تؤمن به فهل كان عدو الثوار هو نفسه عدو المجلس العسكرى؟ هل يرى المجلس العسكرى أنه يقوم بواجبه خير قيام ، فيحمى مصر ويواجه العدو الأول من وجهة نظره بما يستحق؟ هذه النقطة هى حجر الزاوية فى الخلاف الحادث بين الشعب والمجلس العسكرى. الشعب يرى عدوه هو مبارك المستبد وبطانته المستغلة وأركان نظامه من الوزراء والمحافظين وأجهزة الأمن القمعية وقضاة التزوير ورجال الأعمال الفاسدين ورؤساءالبنوك المتواطئين وأعضاء الحزب الوطنى المنتشرين فى البرلمان والمجالس المحلية والجامعات وكافة مؤسسات الدولة كأسراب الجراد يأكلون الأخضر واليابس و ينشرون الرشوة والمحسوبية. الشعب كان يريد من المجلس العسكرى أن يسارع بحماية مصر من أعدائها الذين لم ولن يستسلموا بسهولة، وقد وضح منذ موقعة الجمل الأولى أحداث البالون هى موقعة الجمل الثانية تآمرهم وإصرارهم على إجهاض الثورة بأى ثمن حتى لو غرقت البلاد فى بحور الدم والفوضى. كان يجب على المجلس العسكرى فى الساعات الثمانى عشرة أن يعزل القيادات ويسجن الفاسدين ويوقف تهريب الأموال ويمنع تدمير المستندات، حتى إذا ما أُعلِن بيان السيد عمر سليمان تكون الثورة قد أمّنت نفسها واستكملت نجاحها،تماما كما حدث عند تأميم القناة، لتنطلق بعد ذلك مصر فى طريق الحرية والتقدم، ولتدور عجلة الإنتاج التى يتحسرون علىها بينما هم الذين أوقفوها كما سنبين بعد. كانت أمام المجلس فرصة لن تتكرر فيطرق الحديد وهو ساخن، ويستغل الحماس العارم وعودة روح الانتماء للشعب، فيتخذ قرارات تزيد إجماع الجماهير وتدفعهم إلى بذل العرق فى ميادين الانتاج كما بذلت الدم فى ميادين التحرير. كانت أمام المجلس العسكرى لحظة تاريخية كلحظة تأميم القناة، التى كانت الزر السحرى الذى وحّد الشعب المصرى خلال الخمسينيات والستينيات. كانت للمجلس العسكرى يوم جمعة التنحى مهابة ومكانة، كان يستطيع فورا أن يردع البلطجية ويجبرهم على تسليم أسلحتهم، ويمنع الجشعين من تبوير أرض مصر الزراعية والبناء عليها، ويوقف الاحتكار والجشع من قبل التجارالمستغلين، وكانت جموع الشعب بلجانه الشعبيه وحركاته الثورية ستؤيد المجلس وتعاونه. كانت أخلاق التحرير طاغية، وكانت مصر مشرقة. كان الناس مستبشرين متفائلين، كانوا يتواصون فى رسائل المحمول بالتحلى بالخصال الكريمة والأخلاق الحميدة. كان العالم كله يحنى رؤوسه احتراما وانبهارا بالشعب المتحضر الذى هتف: ارفع راسك فوق .. انت مصرى. فماذا فعل المجلس العسكرى بمصر؟ لماذا خيّب أمل المصريين؟ السبب الرئيسى هو اختلاف العدو عند كل طرف. المجلس العسكرى لم ير داعيا للتحفظ على رموز نظام مبارك وتركهم شهورا طويلة لأنه لم ير فيهم أعداء له. المجلس العسكرى عين وزراء ومحافظين ينتمون لعهد مبارك لأنه لم ير فيهم أعداء لمصر الجديدة. المجلس العسكرى لم يتخلص من القابعين فى أماكنهم فى كل مؤسسات الدولة لأنهم لايمثلون خطرا من وجهة نظره. المجلس العسكرى واجه الثوار بكل عنف وقسوة وإهانة فى الميدان وفى المتحف وفى معسكرات الجيش وحاكمهم فى محاكم عسكرية صارمة حازمة عاجلة لأنهم مخطئون من وجهة نظره، مهما زوّق بياناته ذات الخلفية السوداء بمعسول الكلام عن التواصل مع الشعب العظيم شباب الثورة! حتى عندما أفرج عن بعض الثوار، لم يفعل ذلك اقتناعا منه بنبل أهدافهم وسلامة مقصدهم، والدليل على ذلك أنه لم يقرر براءتهم، فقط خفف العقوبة إلى سنة مع وقف التنفيذ، أى تركها سيف مسلطا على رقابهم، وتحذيرا لأقرانهم من نفس مصيرهم. المجلس العسكرى ماطل فى القصاص للشهداء والمصابين، و فى تكريمهم، وفى إعالة ذويهم، لأنه لايرى لهم فضلا ولا كرامة، كان كل ماقدمه لهم تحية عسكرية يتيمة، كان جزاء من بادر بها أن توارى خلف الحجب تاركا الساحة لحاملى العصا المكهربة. كان مبارك يقابل الاحتجاجات والمظاهرات بجحافل الأمن المركزى، وعلى نفس المنوال يواجه المجلس العسكرى الثوار بالأمن العسكرى(الشرطة العسكرية)! أما الجدل العقيم، وحوار الطرشان من طرف واحد مع المجلس العسكرى والتعامل مع الأمر على أنه مفاوضات أو مساومات بين طرفين متعارضين، و محاولة بعض ( أولاد الحلال!) إقناع الثوار بقبول ما جاد به المجلس، والتريث قبل الدخول فى جولات أخرى فهو إجهاض للثورة وإخماد لجذوتها المفروض أن يكون المجلس العسكرى والحكومة و الثوار جبهة واحدة تقف صفا واحدا وتواجه عدوا واحدا وتسعى لتحقيق أهداف واحدة. كيف يضطر الشعب الثائر إلى تنظيم مظاهرات مليونية لإقناع المجلس العسكرى الذى يحكم مصر فى عهد الثورة بمطالبه؟ لقد أضاع المجلس العسكرى فرصة تاريخية للنهوض بمصر، فأغرقنا بتفاصيل صغيرة كالخلاف حول الاستفتاء والدستور والانتخابات، ثم أغرقنا بتفاصيل أصغر كالخلاف حول تصوير المتهمين فى جلسات المحاكمة، وغدا يغرقنا فى تفاصيل أصغر كالخلاف حول تنظيم موائد الرحمن، والخلاف حول طريقة توزيع انابيب البوتاجاز، والخلاف حول طول سندوتش الكانتين فى مدرسة كفر البطيخ، وبعد غد يغرقنا فى تفاصيل أصغر وأصغر وأصغر.. ومع كل خلاف تصغر مصر شيئا فشيئا فشيئ فشي فش.. سيقول التاريخ عن المجلس العسكرى: ماأشبه الليلة بالبارحة!