"ما هو أنا لو عملت انتخابات دلوقت النحاس هيكسب ، يبقى احنا عملنا ايه ؟!" نُقِلتْ هذه العبارة عن اليوزباشي (المقدم) جمال عبد الناصر في اجتماع عُقِدَ في 29 ديسمبر 1952 . كان ذلك الاجتماع يضم عدداً من أعضاء مجلس قيادة الثورة و كبار قيادات الإخوان المسلمين ، وكانت طبيعة التحول السياسي في مصر بعد انقلاب يوليو هي محل النقاش. وبقية القصة معروفة . حُلّ البرلمان ، و مُنِعَتْ الأحزاب السياسية ، و جُمِدَتْ الحريات العامة ، و سيطر العسكر على السياسة و ما دون السياسة . و خلاصة الموقف: خسرت مصر حريتها لمدة 57 عاما حتى ثورة 25 يناير . و مصطفى النحاس – المشار إليه – كان زعيماً لحزب الوفد الليبرالي ، و كان الوفد في الماضي أكثر الأحزاب السياسية شعبياً و نفوذاً. و خوفاً من انتصار ليبرالي في الانتخابات أيدت قيادة الإخوان قرار حل الأحزاب السياسية الذي أصدره مجلس قيادة الثورة في 1953. كان موقف الإخوان براجماتيا ، و لم يكن ايديولوجياً أو مبدئياً . فقد ظنت القيادة حينئذٍ أن ذلك الحل سيضمن فراغ الساحة السياسية من فاعلين أقوياء ، و نسوا أن أقوى الفاعلين على الإطلاق هو عبد الناصر و جماعته – أي عسكريو مجلس قيادة الثورة . و بحلول عام 1954 استطاع عبد الناصر السيطرة التامة على الجيش ، و اقصاء من مال نحو الديمقراطية من ضباطه (و أشهرهم الرائد خالد محيي الدين ، و العقيد يوسف صديق ، و العقيد أحمد شوقي، وآخرون أهمل التاريخ مواقفهم النبيلة) . و تزامن ذلك مع تهميش الليبراليين . ثم جاء الدور على حلفاء الأمس ، فكان قمع الإخوان شديداً . و أدى ذلك القمع إلى تقليص نفوذ الإخوان لمدة 20 عاما (ما بين 1954 و 1974) ، و لكنه لم يقض عليهم ، و لا اقترب من ذلك . و لنعد الآن ليوليو 2011 . لايوجد اليوم مجلس لقيادة الثورة ، و لكن يوجد مجلس أعلى للقوات المسلحة لم يقم أساساً بأية ثورة . و لايوجد الآن مقدم من الطبقة الكادحة في السادسة و الثلاثين من عمره يصرخ في الجماهير" فلتسقط الثورة العرجاء ، أريدها ثورة حمراء" ليبرر إجراءات القمع ، و إنما يوجد مشير من الطبقة المتوسطة في السادسة و السبعين من عمره يتكلم عن التحول الديمقراطي (مع الإشارات المتكررة للمكانة الخاصة للجيش) . أما الذي بقي على حاله فهو سلوك أغلبية النخبة السياسية فيما يخص الديمقراطية : يقبلون قواعدها إن كانت نتائجها في مصلحتهم ، و يرفضونها إن كانت غير ذلك . و لكن الأدوار تبدلت هذه المرة . ففي 19 مارس 2011 أُجري المجلس العسكري أول إستفتاء ديمقراطي حر في تاريخ مصر . و كانت النتيجة هي موافقة 77.24% من الناخبين المشاركين على تعديلاتٍ دستورية ، تضمنت إجراء انتخابات برلمانية ، يليها انتخاب مائة عضوٍ من البرلمان ليُكَوّنوا جمعية تأسيسة لصياغة دستور جديد لمصر خلال ستة أشهر بعد انتخابهم . كان التصويت ب"نعم" اذاً تصويتاً على موادٍ دستورية و على آليات الخروج من مرحلة رمادية استثنائية . أيد الإخوان – و أغلبية الإسلاميين - التعديلات و ماترتب عليها من إجراءات ، و وافقوا على إجراء انتخابات في سبتمبر المقبل ، وهو الوعد الذي قطعه المجلس العسكري على نفسه لتسليم السلطة لمدنيين منتخبين خلال ستة أشهر من اعتلائه سدة الحكم . أما العلمانيون – سواء الليبراليون منهم أو اليساريون – فقد صوت أغلبيتهم ب"لا" . إذ أنهم يخشون خوض الإنتخابات أمام الإخوان الأكثر تنظيماً و نشاطاً و خبرةً . كما أن حالة عدم الثقة بين العلمانيين و كافة التيارات الإسلامية الأخرى متجذرة مما يضع عقبات أمام التحالف أو التآلف أو التوافق . فلو فاز الإخوان في انتخابات سبتمبر البرلمانية ، فسيكون لهم حضوراً و نفوذاً كبيراً على الجمعية التأسيسية للدستور ، و هو ماترفضه التيارات العلمانية . إلا أن بدائلهم ليست خالية من المعضلات ، فهي تشتمل على رفض نتيجة أول تجربة ديمقراطية تخوضها مصر ما بعد مبارك (الاستفتاء الذي صوت لصالحه 77% من الناخبين المشاركين) ، و استمرار الجيش في الحكم لفترة أطول ، و عدة آليات – في معظمها متضارب أحيانا و غامض أحيانا أخرى- لوضع دستور قبل الإنتخابات (ما يشار اليه بحملة "الدستور أولاً") . و يشير بعض مؤيدي هذا الرأي إلى تجربة فرنسا بعد ثورة 1789 (رغم أنها لم تؤد إلى أية ديمقراطية ، و إنما الى حقبة نابليون بونابرت ، ثم الامبراطورية ، ثم عودة لنظام ما قبل الثورة) ، و ربما تفوتهم بعض التجارب الناجحة في وضع الدساتير و إقرارها عبر برلمانات منتخبة كتجربة الهند و إندونيسيا و إيطاليا و إسبانيا و كوريا الجنوبية و غيرهم – و هي التجربة الأغلب في عمليات التحول الديمقراطي الناجح . و الخلاصة - بعكس الموقف في 1952 - صار الإسلاميون اليوم يلعبون دور الديمقراطيين ، و الليبراليون يطالبون الجيش بالبقاء في السلطة . و توجد أسباب وجيهة للموقف الحالي . فشعبية الإخوان لم تأت من فراغ . فقد منح الرئيس الراحل محمد أنور السادات مساحة ضيقة للحريات السياسية لتيارات متعددة في سبعينيات القرن المنصرم. فاستفاد الإخوان من تلك المساحة . نشطوا في الجامعات و النقابات و الاتحادات بطول مصر و عرضها ، مع تركيزهم على استقطاب الشباب ، و تفاعلوا مع خطاب "الآخر" ، و تفاوضوا مع المخالف ، و بنوا عدة تحالفات مؤقتة ، و كذلك شبكة معقدة للخدمات اجتماعية و إغاثية و طبية و تعليمية للمحتاجين أساسها تطوعي ، و هم كانوا قد تخلوا عن العنف السياسي منذ السبيعينيّات ، و كذلك عدلوا من سلوكياتهم . فالذي أدى ألى صعود شعبية الإخوان لم تكن ثقافة مصر الإسلامية – و إلا لكان شيخ الأزهر أكثر شعبية منهم ، و لم يكن الفقر و تدني مستوى المعيشة – وإلا لفاز اليساريون في الانتخابات القادمة بوعود إعادة توزيع الثروة ، و لم تكن الديماجوجية و الخطاب الشعبوي – و إلا لكان القوميون في مقدمة أية استطلاع للرأي. لم يكن السبب سوى خليطاً من التنظيم الجيد و الإرادة الصلبة ، و تضمن ذلك استراتيجية واضحة للانتشار ، و هياكل إدارية فعالة ، و عمل تنظيمي شاق (و خطر) ، مع اعداد جيد و إلتزام صارم للكوادر– أي كما سينصح أية مرجع مختص بالحملات السياسية للأحزاب في ظروف عصيبة ، غير ديمقراطية – و هم طبقوا النصائح بحذافيرها . و ينسى الكثير من الساسة المصريين أن أية من كان سيحكم مصر في الفترة القادمة سيخرج منها أقل شعبية مما كان عليه قبلها . فالسقف العالي لتوقعات ما بعد الثورة ، مع الحالة الإقتصادية المرهقة من ثلاثين عاما من الفساد ، مع معدلات البطالة ، مع الحالة الأمنية المتقلبة ، مع التغيّرات السريعة في الجوار الإقليمي تمثل جملة تحديات صعبة لأية حكومة بغض النظر عن ايديولوجيتها . فلو حكم الإسلاميون و فشلوا في تحسين الأوضاع السابق ذكرها - فإن اعادة انتخابهم ستكون في غاية الصعوبة . و لن يقبل أحد في مصر ديكتاتورية جديدة – بأية لباس – و خاصة الجيش . و تنطبق تلك القاعدة على أية تيار سياسي علماني يفوز في الانتخابات . فديكتاتوريات مصر السابقة - و كلها من النوع العلماني – لم تف بوعودها البراقة فحسب ، و لكنها لم تترك الحكم أيضاً الا على أشلاء آلاف الشهداء و الجرحى . فبدلاً من محاولات التحايل على قواعد الديمقراطية يُفَضل لعلمانيي مصرالتركيز على بناء التحالفات و الإئتلافات ، وتوصيل رسالاتهم إلى المناطق المهمشة و النائية خارج المدن ، و بناء شبكات خدمات اجتماعية تطوعية ، و تطوير هياكلهم التنظيمية ، و تفنيد الدعاية المضادة لتشويه القيم الليبرالية ، و التغيير من الخطاب و السلوك النخبوي ، و الاستماع أكثر إلى الطبقة الكادحة . و يجب أن تبقى تلك الحقيقة أمام أعينهم دائماً : 44 % من البالغين المصريين أميون ، و يمكنهم التصويت . لم يستوعب إخوان 1952 و علمانيو 2011 مدى خطورة السلطوية القمعية . فعندما يرفض العلمانيون نتائج استفتاء حر يمثل إرادة الأكثرية الساحقة ، و عندما يُجزء الإسلاميون مبادئ و حقوق المواطنة – فيقبلون بعضها و يرفضون البعض ، فالفائزون حينئذ سيكونون القمع و الفساد و من يمارسهما . و إن فاز هؤلاء مرة أخرى فالخاسرة ستكون مصر . و لعل العودة إلى شعار "الثورة أولاً" - و ما يشير اليه من التركيز على مطالب الثورة الأساسية في المظاهرات القادمة- تمثل خطوة مهمة على الطريق الصحيح.