من أين نبدأ مواجهة أفكار التطرف الديني والطائفية والعنف؟ من أين نبدأ إرساء قيم المواطنة في المجتمع؟ هناك مداخل متعددة للمواجهة مع التطرف والطائفية والعنف، ومداخل متعددة لنشر ثقافة المواطنة وقيمها في مجتمعنا؛ منها المدخل التشريعي، فلاشك في أن هناك تعديلات تشريعية مطلوبة لإنهاء أوضاع قانونية مُشّوهة لمجتمعنا، أوضاع قانونية تتعارض مع مبدأ المواطنة الذي أرساه الدستور في تعديلاته الأخيرة كمبدأ يعلو علي غيره من المبادئ الدستورية، بل أظن أن الدستور نفسه يحتاج تعديلاً يستبعد أي مواد تتعارض مع مبدأ المواطنة، كما نحتاج تشريعًا يجرم ممارسة أي موظف عمومي للتمييز ويقضي بعزله، التمييز بكل معانيه، سواء كان هذا التمييز تميزا دينييًا أو تمييزًا علي أساس النوع أو الأصل أو بسبب الإعاقة، نحتاج تشريعًا واضحًا يحدد معني التمييز بشكل واضح ويعاقب عليه. لكن أي تعديل تشريعي لن يصمد دون مساندة مجتمعية، دون تغيير المناخ السائد الذي يؤدي إلي الاحتقان، دون التصدي للخطاب الديني الطائفي في الجانبين، دون إشاعة ثقافة احترام التعددية والتنوع والاختلاف. وهنا لابد أن تتضافر جهود متعددة من أجل الخروج من الحالة التي وصلنا إليها، فجهود المثقفين والمبدعين ومؤسسات العمل الثقافي الرسمية والأهلية ضرورية وأساسية في هذا المجال، كذلك دور المبادرات الجماعية التي تقوم بها مجموعات من النخبة الثقافية والسياسية لتكوين مجموعات لمناهضة التمييز الديني أو للتصدي لمناهضة العنف الطائفي أو للمواطنة، بل دور كل واحد وواحدة منا في التصدي للسلوكيات التي تهدم المواطنة، التصدي لها بين الأهل والأصدقاء وفي العمل والشارع. لكني أعتقد أن هناك بداية لابد منها علي طريق اقتلاع جذور الطائفية والتطرف والتمييز. أظن أن بداية الطريق تأتي من التعليم، فالتعليم مفتاح التكوين الفكري للمواطن الصغير، وعندما بدأت الدولة القومية الحديثة في العالم كانت المدرسة الأداة الرئيسية لإنتاج أفكار المواطنة وبناء مشاعر الانتماء القومي لدي المواطنين، فمثلما كان المصنع في ذلك العصر وسيلة الإنتاج الصناعي الكبير المتماثل، أو ما يُسمي «الماس برودكشن»، كانت المدرسة الحديثة وسيلة إنتاج «الماس بردكشن» البشري من خلال مناهج ترسخ قيم المواطنة منذ الطفولة، وما حدث في الشمال والغرب حدث عندنا في مصر مع التجربة التحديثية في القرن التاسع عشر، كانت المدرسة منذ ذلك الوقت وعلي مدي قرن ونصف القرن تقريبًا مصدرًا لمبادئ المواطنة، ومن هنا كانت شعارات مثل «مصر للمصريين» ثم «الدين لله والوطن للجميع» تلقي تجاوبًا واسعًا من المصريين، لكن السنوات الأخيرة شهدت «مدارس» من نوع آخر، مدارس تخرج تلاميذ يكرهون الآخر، تخرج تلاميذ عقولهم تربة خصبة لنمو الطائفية والتمييز، فضلاً عن أنهم تلاميذ لا يجيدون القراءة والكتابة ولم يكتسب أغلبهم معارف مناسبة للعصر، هذا إذا أسمينا ما اكتسبوه معارف أصلاً، إنها مدارس أصبحت أوكارًا للتطرف الديني، يحرم بعض القائمين عليها تحية العلم باعتبار العلم «رجس من عمل الشيطان»، ويستبدلون أناشيد دينية بالنشيد الوطني لمصر، مدارس تفرض بعض القائمات عليها الحجاب علي الطالبات بل تحاولن أحيانًا فرضه علي المعلمات. وعندما أتحدث عن التعليم ودوره في إرساء قيم المواطنة والتصدي للطائفية لا أقصد فقط تعديل المحتوي الذي يتلقاه الطلاب من خلال المناهج الدراسية، ولا أقصد فقط الإشراف الدقيق علي القائمين بالعملية التعليمية ومواجهة تغلغل جماعات الإسلام السياسي وأتباع الوهابية في المدارس وفي التوجيه، بل بالأساس أن تكون هناك مدرسة من الأصل يتوجه إليها التلاميذ لتلقي المعرفة وينتمون إليها، فنتيجة لتواطؤ المدارس وأولياء الأمور، خصوصا في المرحلة الثانوية، انتقل التعليم إلي ما يسميه الطلاب «السناتر» جمع «سنتر» أي مركز، وهي مراكز معلنة للدروس الخصوصية امتدت للأسف إلي الجامعات خصوصًا فيما يسمونه كليات القمة، مثل الطب، التي يتوجه طلابها إلي الدروس الخصوصية بدلاً من أن يذهبوا لكليتهم. البداية إذًا أن تكون هناك مدرسة، ثم بعد ذلك أن تقدم هذه المدرسة محتوي تعليمي يكسب الطالب معرفة مناسبة للعصر ويعمل علي تنمية ملكاته النقدية، ومن خلال ذلك يرسخ لديه منذ الصغر قيم المواطنة، أي الانتماء إلي مصر الوطن الذي يجمعنا كلنا باختلاف أدياننا وعقائدنا وأفكارنا وأصولنا، ينمي لديه قبول الآخر المختلف عنه، محتوي تعليمي يدرك من خلاله أن التمييز علي أساس الدين أو الجنس أو الأصل أو اللون جريمة في حق الوطن وفي حق إنسانية الإنسان. إنه أفكار لا يمكن أن تتحقق دون مساندة الرأي العام والجماعة الثقافية للوزير المسئول عن التعليم في مواجهته مع الأصولية.