من يلاحظ أساليب سائقى السيارات فى مصر يظن أننا شعب يهتم بالدقيقة والثانية بل والفيمتو ثانية، أو أننا نتنافس فى سباق قومى لتخطى الرقم القياسى فى سرعة الوصول للهدف، ومن يتابع المشاجرات و(الصربعة) على أسبقية المرور بما تخلّفه من حوادث أليمة يظن أننا (نسوّى الهوايل) بينما فى الحقيقة أن غالبية أولئك المتعجلين يريدون اللحاق بحجر المعسل على المقهى!. أعتقد أن المشروع القومى الأول، أو )أبو المشاريع( الذى يجب الاهتمام به والترويج له، هو تغييرأو تعديل نمط الحياة لدى المصريين، ونشر ثقافة تقديس الوقت وحسن إدارته وتنظيم أوقات العمل والترفيه والتثقيف، لأنه الشىء الوحيد الذى يملكه كل مصرى، ويستطيع بمساهمته فيه أن يصنع جزءا من نهضتنا. لكن هذا على بساطته، يحتاج عزما لدى الفرد، وتشجيعا من الدولة، ومناخا عاما فى المجتمع. إن الفرق بين الفشل والنجاح فى حياة الأمم والأفراد يكمن فى كلمة واحدة : الوقت .. كيفية إدارته وتنظيمه والاستفادة منه. ونحن صغار كانت كراساتنا المدرسية تحمل على غلافها الخلفى عبارات مركزة و مؤثرة، منها : الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك. وفى القرآن الكريم العديد من الآيات التى تؤكد على أن الله عز وجل قد خلق الليل لباسا لتسكنوا فيه، أما النهار فقد جعله مبصرا ومعاشا. إن أى مشاريع تنمية نحلم بتحقيقها لن نجد من يستيقظ لتنفيذها بنشاط و تركيز وإتقان إذا استمرت حياتنا على المنوال الحالى، لأن الذى يحدث فى مصر أنه فى كل ليلة تضىء القنوات التليفزيونية استوديوهاتها الأنيقة، وترص المقاعد الوثيرة، وتقدم المشروبات الباردة، وتعرض التقارير الساخنة، وتستضيف العلماء والصحفيين، وتهاتف اللواءات المحافظين والوزراء المعنيين، وتحاورالشباب الثائرين ، وتتابع العمال والبسطاء، وتمتعنا بإبداع الكتاب والشعراء، وتناقش أحوال الوطن والمواطنين بكل جرأة وشفافية. وتتحاور النخب بالحسنى تارة، و بالعسرى والكراسى والأحذية تارة أخرى. بل إن الضيف الواحد ينتقل فى نفس الليلة بين العديد من القنوات ليقدم (فقرته) إما حاضرا فى الاستوديو أو هاتفيا إن لم يسعفه الوقت والمواصلات، بما يذكرّنا بنشاط الفنانين والفنانات فى (رأس السنة). وإذا كان العمل الرسمى يبدأ فى الثامنة صباحا( كما يفترض القانون)، وإذا كان الواحد منا رجلا كان أو امرأة - يحتاج من ساعة إلى ساعتين فى الصباح لإعداد نفسه وتناول الإفطار ومساعدة التلاميذ الصغار ثم الذهاب إلى محل العمل؛ إذن يكون الوقت المناسب للاستيقاظ هو السادسة صباحا (لم أتحدث عن الاستيقاظ لصلاة الفجر حتى لايغضب أصحابنا الذين لايحبون التزمت، ولأن هناك من لاتهمه الصلاة، فضلا عن شركائنا فى الوطن الذين نحترمهم)، وإذا كان الإنسان يحتاج فى المتوسط إلى ثمان ساعات من النوم، فمن الملائم أن ينام الفرد العادى فى العاشرة مساء على أقصى تقدير حتى يستطيع ممارسة حياته الطبيعية، فيؤدى عمله بإتقان ويحافظ على صحته البدنية والذهنية، دون الحاجة إلى منبهات ومنشطات، أدوية كانت أو مشروبات. كل هذا جميل ومؤثر .... لكن بقى فقط أن نسأل: أى وطن هذا الذى ينصب كل ليلة مكلمة كمحاورات السفسطائيين فى بيزنطة قديما، ثم ينام فى الواحدة صباحا بعد أن استعرض المشكلات واقترح الحلول ووضع الخطط ؟ من ذا الذى يستيقظ لتنفيذ تلك الحلول؟ حاولت أن أعد برامج الحوار( التوك شو) على النايل سات فلم أفلح . لقد أصبحت هذه البرامج بديلا مسليا عن الذهاب إلى السينما أو السهر فى المسرح، وآهى(حاجة ببلاش كده). إضافة إلى أنها تعطى الفرد شعورا بالرضا، ألم يتابع مشاكل الوطن وينفعل بها؟! إنها مع الفارق أشبه بما كانت تفعله مباريات كرة القدم من إذكاء لعاطفة زائفة بالوطنية! قد يعترض البعض قائلا: إن قضاء الليلة أمام هذه البرامج أفضل من تضييعها فى أماكن اللهو البرىء أو غير البرىء، والرد عليهم بسيط جدا: أولئك قد حددوا طريقهم واختاروا هدفهم وأخرجوا أنفسهم من حساب الزمن وأخرجهم الوطن من حسابه ، لكن رواد البرامج الهادفة هم الأمل وعليهم يقع عبء إعادة مصر إلى حجمها الصحيح بين الأمم. قبل الثورة كنا نتابع هذه البرامج للتفاعل مع هموم الوطن ،وبعد الثورة اشتد انفعالنا و زاد تفاعلنا دائرة المتابعين حتى شملت غالبية المواطنين. وينافس هذه البرامج فى التهام الوقت : الانترنت: ذلك الساحر الذى حل محل شهر زاد وحكاياتها عن بساط الريح الذى ينقل السندباد من أقصى الأرض إلى أقصاها فى طرفة عين، وخاتم سليمان الذى ما إن تلمسه حتى يظهر الجنى العملاق فيضع بين يديك كل ماتشتهى. يكفيه فخرا الانترنت وإخوانه الفيس بوك وتويتر ويوتيوب أنهم أخرجوا المارد المصرى من قمقمه، فقتل داود جالوت، وتخلّص العرب من شر قد اقترب! منذ عام تحدثت التقارير بفخر عن متابعة ملايين المصريين قُدّر عددهم بأربعين مليونا للقاء الشامل للعالم الكبير أحمد زويل مع المحاورين المتميزين منى الشاذلى ومحمود سعد، لكن أحدا لم يفطن إلى أن هؤلاء الملايين استيقظوا فى اليوم التالى قبيل الظهر بعد السهرة الممتدة حتى الثانية صباحا، وكأن الرجل لم يكن ينفخ فيهم روح الجد والعمل، لاروح النوم والكسل! هل لو كان الدكتور أحمد زويل يسهر فى أمريكا إلى ماقبيل الفجر فى كل ليلة، أكان يصل إلى ماوصل إليه؟ هل يوافق الدكتور فاروق الباز والدكتور يحيى (الرخاوى بالطبع) والدكتور محمد سليم العوا والشاعر فاروق جويدة وغيرهم من علمائنا الأفاضل بكل يسرعلى استضافتهم السواريه فى هذه البرامج ؟ أظنهم (يعافرون) مع المعدين و المذيعين الذين يتعللون بأنه مافى اليد حيلة ، فالبث يتكلف المال الكثير، و ذهب الإعلانات يخلب العقول و يملأ الجيوب. كيف يبدأ برنامج جاد وشيق ومفيد ( بل العديد من البرامج) فى التاسعة أو العاشرة مساء بعد غروب شمس الشتاء بخمس ساعات، وعندما تنتهى فقراته تكون كائنات مصر الأخرى قد استمتعت بثمان ساعات كاملة من النوم الهنىء؟ ألا من طريقة لتقديم هذه البرامج المتميزة التى لانستطيع مقاومة جاذبيتها و نضطر إلى متابعتها؟ كان تبدأ فقراتها بعد العشاء مباشرة مع تأخير الأفلام والمسلسلات لمن يرغب فى السهر على مسئوليته الشخصية؟ مالعمل إذا تنبهت طيورنا الداجنة وحيواناتنا الأليفة، واعتصمت هى الأخرى مطالبة بحقها فى السهر والسمر كل ليلة لمناقشة مشكلاتها الملحة مثل تأمين الحظائر وتحسين مواصفات العلف؟ أظن أننا لن نجد ساعتها دجاجة تبيض أوبقرة تحلب أو جاموسة تحرث.