ظاهرتان شديدتا الخطورة تهددان سلامة المجتمع بل وربما بقاءه , وتزداد درجة الخطورة مع عدم الوعي بهما واعتبارهما أحداثا عادية تمر بسلام دون مراجعة أومحاسبة . إذا لم تكن أيها القارئ العزيز عرفت ما أقصده بالظاهرتين فهذا دليل على صحة ما أقول من عدم الإلتفات إليهما والشعور بمدى فداحتهما . وعلى الرغم من أن الظاهرة الأولى تربوية تعليمية والثانية سياسية , إلا أننا سنلقي الضوء على الجانب النفسي والإجتماعي للظاهرتين , ونترك الجوانب الأخرى لأهل الإختصاص التعليمي والتربوي والسياسي . الظاهرة الأولى هي الغش في الإمتحانات , والثانية هي تزوير الإنتخابات , وقد تسميها ظاهرة أو تسميها خطيئة فكلا الإسمين كما سنرى مناسب لما يحدث. والظاهرة هي التصرف الذي ينتشر بين الناس بحيث يصبح جزءاً من حياتهم اليومية دون شعور بالحرج حين تطبيقه أو اتباعه ولو كان هذا التصرف سيئاً . ويعرف دوركايم الظاهرة بأنها كل ضرب من السلوك ثابت أو غير ثابت يعم المجتمع بأسره ويكون ذا وجود مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية . وبعض العلماء يقول بأن الشئ يعتبر ظاهرة إذا كان يشكل 30% من مساحة سلوك الناس . والخطيئة هي الخطأ الفادح ذو الأثر الخطير على الفرد والمجتمع , وهي شئ أشنع من الخطأ فالإنسان ربما أراد الحق فأخطأه , أما الخطيئة فهي كونه أراد الباطل فأصابه . والغش في الإمتحانات وتزوير الإنتخابات يدخلان تحت وصف الظاهرة والخطيئة في آن فهما من ناحية الشيوع والإنتشار في المجتمع المصري لا ينكرهما أحد , ومن ناحية التأثير والخطورة لا يغيبان عن فطنة عاقل . وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين: "ألا أدلكم على أكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين" , وكان متكئاً فجلس صلى الله عليه وسلم أي: إظهاراً للاهتمام بما سيقول ، فقال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور . وفي رواية : وظل يرددها (أي عبارة شهادة الزور وقول الزور) حتى قلنا ليته سكت . أولا : الغش في الإمتحانات: والغش في الإمتحانات كان يحدث بصورة فردية قبل ذلك وكان فعلا مستهجنا في الماضي , أما الآن فهو يحدث بشكل جماعي في غالبية المدارس إن لم تكن كلها وأصبح أولياء الأمور قبل الطلاب يعتبرونه حقا مشروعا لأبنائهم , ولذلك تثور ثائرتهم على أي رئيس لجنة يحاول أن يمنع الغش ويعتبرونه شخصا ظالما يتسبب في ضياع مستقبل أبنائهم وربما ضربوه أو فتكوا به . وهذا الشخص الذي يصمم على منع الغش يعتبر مثيرا للقلق والشغب , وربما سمع نصائح من المسئولين الأعلى بأن يلين بعض الشئ حتى لا يتسبب في مشكلة كبيرة خاصة لو كانت اللجنة الإمتحانية في قرية نائية أو حي شعبي , أو في مدرسة ينتمي تلاميذها إلى أسر صاحبة سلطة وسطوة في المجتمع . والغريب أن هناك تواطؤ واسع الإنتشار على مشروعية الغش في الوقت الحالي يتورط فيه جهلاء الناس ومتعلميهم ومثقفيهم , بل ويتورط فيه قيادات يفترض أنها مسئولة فتسعى إلى تسهيل الغش في لجان بعينها يكون لهم فيها أبناء أو أقارب . ولا يتوقف موضوع الغش في الإمتحانات على الغش في اللجان الإمتحانية وإنما ما يشوب عملية التقدير من البداية فنظام التعليم والتقييم كله يشوبه الخلل , فمثلا مناهج التعليم وطرق الإمتحانات لا تقيس لدى الطلاب القدرة على تحصيل المعرفة ومعالجة المعلومات والتفكير والتخطيط , ولا تقيس من الذكاءات غير الذكاء اللغوي اللفظي والذكاء المنطقي الحسابي مع إهدار لبقية أنواع الذكاءات . ولا يتوقف الأمر على المدارس بل يمتد إلى الجامعات حيث زادت الدروس الخصوصية بها وتسللت إليها المجاملات وشراء الدرجات واستخدام النفوذ بشكل مخيف , ولم يعد أستاذ الجامعة بنفس حيدة ونزاهة الماضي . ويمتد التقدير غير العادل وغير الصادق إلى رسائل الماجستير والدكتوراه وأبحاث الترقية للدرجات العلمية والوظيفية الأعلى. وقد أهدر العلم كقيمة وهدف وحل محله تحصيل الدرجات بأي وسيلة , وهنا ظهر المدرسون المحترفون يقدمون هذه الخدمة للطلاب وأولياء الأمور بحيث يعدون كائنات امتحانية تعرف كيف تحصد الدرجات وتصل إلى أعلى النسب في الإمتحانات دون أن تكتسب القدرة على حل المشكلات أو التفكير الإبتكاري ودون أن تثقل شخصياتهم أو تنضج . وإذا لم ينجح المدرسون المحترفون في هذه المهمة فإن الجامعات الخاصة تكمل المطلوب حيث تقبل الطالب بمجموع صغير أو بأي مجموع وتمنحه الفرصة للنجاح والحصول على شهادة ورقية في كل سنة يدفع ثمنها والده بينما الطالب يلهو ويمرح مع زميلاته وزملائه وهو مطمئن للنتيجة طالما أن والده قد عمل اللازم ودفع الرشوة (المصروفات للجامعة ). وما دام الأمر لا يتعدى الدرجات فالطالب يحتال للوصول إليها بأي شكل فإذا استطاع أن يشتري الإمتحان فإنه (ومعه أهله) لايتردد في ذلك , ولذلك انتشرت ظاهرة بيع أسئلة الإمتحانات خاصة الثانوية العامة أو تسريبها للدرجة التي فشلت معها كل المحاولات للحفاظ على سرية الإمتحانات مما اضطر وزارة التربية والتعليم أن تنقل أوراق الأسئلة بواسطة طائرات حربية في يوم الإمتحان . ولا يخلو تصحيح أوراق الإمتحانات من خلل , حيث يتم التصحيح باستعجال شدييد لإذاعة النتيجة في وقت معين , ومراجعة التصحيح تتحول إلى عملية شكلية يقوم المراجع فيها بالتوقيع على ما قد سبق دون تمحيص حقيقي مما يجعل الخلل في التصحيح المبدئي أمر واقع . هذا في المدارس , أما في الجامعات فإن عملية التصحيح يشوبها الكثير من الخلل حيث يوكل أمره إلى أستاذ المادة الذي يقوم بتصحيح أعداد كبيرة جدا من الأوراق في وقت قصير جدا لا يسمح له بقراء ة ما كتبه الطلاب ولكن فقط بأخذ فكرة عامة وسريعة جدا وغير دقيقة جدا يعطي بعدها الدرجة بشكل جزافي وغير موضوعي مما يهدر جهد كثير من الطلاب . ويكمن وراء تلك الحالة من الإستعجال واللامبالاة روح من الزهق والضيق والإحساس باللامعنى لدى عدد كبير ممن يقومون بهذه العملية الهامة من المدرسين وأساتذة الجامعات بسبب ظروف نفسية أو اجتماعية يعيشونها , وبعضهم بسبب موقف شخصي يتسم بالإستهتار والللامبالاة بالعملية الإمتحانية بل والعملية التعليمية برمتها , وما يحيط بذلك من عدم احترام لقيمة العلم أو قيمة العدل أو قيمة الإتقان والدقة والموضوعية , فكل هذه القيم مهتزة بشدة في المجتمع التعليمي والمجتمع العام. ويلحق بذلك ما يحدث في الدراسات العليا من مجاملات وتوصيات لأصحاب الحظوة من أبناء الأساتذة وزملائهم وأقاربهم , وذوي المكانة في المجتمع بوجه عام , أو من يدفعون لهذا أو ذاك , أو من يسهلون السفر للخارج أو من يسهلون المزايا تحت أي اسم أو بدون اسم . وتكتمل الصورة المزيفة بترقيات قائمة على أبحاث مسروقة أو مزورة أو مقتبسة أو مكررة أو غير ذات معنى أو قيمة . والنتيجة النهائية لكل ذلك ابتعاد المجتمع التعليمي والعلمي عن الهدف الأساسي وهو العلم والمعرفة بالمعنى الصادق الحقيقي , ذلك العلم الذي يستكشف أسرار الكون ويصل إلى المعرفة الحقيقية لقوانين الحياة , ومن هنا تتكون صورة مزورة للحياة يتبناها الأساتذة والطلاب في كل المراحل فتجعل الحياة كاذبة خاطئة . ثانيا : تزوير الإنتخابات : وإذا تكلمنا عن الظاهرة (الخطيئة) الثانية وهي تزوير الإنتخابات فسنجد حدثين قريبين جدا مليئان بالدلالات الشديدة على بشاعة التزوير وقبحه في المجتمع المصري فقد شهدت مصر في عام 2010 م انتخابات مجلس الشورى وانتخابات مجلس الشعب , وقد شهدت تلك الإنتخابات عمليات تزوير وتزييف وبلطجة وعنف ورشوة واسعة النطاق , وكان الإقبال من الناخبين ضعيفا جدا (وإذا كانت الأرقام الرسمية والتصريحات الرسمية تقول عكس ذلك كالعادة منذ ستين عاما) , وتورع الناس المحترمون عن الترشح في الإنتخابات أو حتى التصويت لما يشوب العملية الإنتخابية برمتها من سلوكيات تنفر الناس من المشاركة فضلا عن أن الجميع يعلمون أن الإنتخابات في مصر نتائجها معروفة مقدما , وهي محسومة للحزب الوطني بالضرورة , وأن عملية التصويت ماهي إلا ديكور سخيف وإسباغ للشرعية على ممارسات غير شرعية. وفي الإنتخابات الأخيرة تم استبعاد كل التيارات والرموز المعارضة والمستقلة حتى بدا مجلس الشعب بدون معارضة حقيقية , وفقد القائمون على الإنتخابات تلك الحنكة القديمة التي تميز بها من سبقهم من حبكة التزوير وإعطاء الفرصة لبعض المعارضين من باب الديكور وسد الذرائع وتحسين الصورة عالميا , ويبدو أن شهية الحزب الوطني انفتحت بشكل غير منضبط ليبتلع كل المقاعد غير عابئ بالصورة أو الشكل أو الديكور , وليذهب الجميع إلى الجحيم . ولقد شهد الجميع حرق واستبدال الصناديق بالجملة , وتسويد البطاقات لصالح مرشحي الحزب , واستبعاد الإشراف القضائي الحقيقي والمباشر لكي يتم التزوير بشكل سهل . ولكي يتم ذلك فلابد من الإستعانة بعدد كبير من البلطجية وأصحاب السوابق , ولقد بلغ أجر البلطجي في اليوم الواحد ألف جنيه , ووظيفته هي ترويع الناخبين والسيطرة على محيط لجنة الإنتخابات وتيسير عمليات التزوير . وعلى الرغم من انضباط السلوك الإنتخابي لدى المصريين في انتخابات النقابات والأندية الرياضية والإجتماعية , إلا أن الصورة تختلف تماما في الإنتخابات العامة (المحليات والشعب والشورى) , ويعود السبب إلى أن الإنتخابات الأولى لا تتدخل فيها الحكومة وتخلو غالبا من التزوير لذلك يشعر الناخب بأن صوته مؤثر وله قيمة , أما في الإنتخابات العامة فإن الجو يفسد تماما بالتدخلات السلطوية ومحاولات التزوير ويبتعد الناس عن صناديق الإنتخابات ويتركونها نهبا لإرادات عابثة فاسدة. والناخب المصري لا يركز على البرنامج الإنتخابي لمن ينتخبه , وإنما يتحرك بدافع المشاعر أو المعرفة أو القرابة أو العصبية القبلية أو بحثا عن قضاء مصالح شخصية يقوم بها المرشح , ولا يوجد وعي كاف أو إرادة شعبية كافية لحماية صناديق الإنتخابات وعمليات الإقتراع من التزوير سواء منه الرسمي أو الشعبي . وحين تزور الإنتخابات لا ترى الناس تغضب كثيرا لذلك (باستثناء المرشحين المستبعدين وبعض النخبة) ويمر الأمر وكأن شيئا لم يكن , وهذا يشجع على مزيد من التزوير في الإنتخابات التالية . وإذا قارنا هذا السلوك الإنتخابي المصري بنظيره في إيران أو تركيا أو إسرائيل أو باكستان فسنجد اختلافا كبيرا في هذه الدول حيث الإرادة الشعبية لها وزن كبير , وتعمل لها السلطة المشرفة على الإنتخابات ألف حساب , وحين تكون هناك شبهة تزوير تجد الجماهير تخرج غاضبة إلى الشارع ولا تسكت عن ذلك أبدا , وهذا ما حدث في إيران بعد الإنتخابات الرئاسية الأخيرة. ولقد ظهرت نية الإدارة في التزوير حين أصرت على تعديل المادة 88 من الدستور واستبعدت بذلك الإشراف القضائي الكامل والمباشر على العملية الإنتخابية , واستبدلته بلجنة عليا للإنتخابات تشرف من بعيد , وبذلك أصبحت العملية الإنتخابية برمتها في يد السلطة التنفيذية صاحبة المصلحة في دعم الحزب الوطني وتقييد واستبعاد المعارضة بكل أطيافها . وكان هناك إصرار آخر على عدم تنقية الجداول الإنتخابية من أصوات الموتى , وإصرار على حرمان عدد كبير من الأحياء من التصويت بسبب عدم وجود بطاقات انتخابية لهم , وأيضا حرمان المقيمين بالخارج من ممارسة حقهم الطبيعي في التصويت . ولقد نادى كثير من الشرفاء والعقلاء بمقاطعة العملية الإنتخابية من الأساس وذلك لعدم وجود ضمانات لانتخابات نظيفة وحقيقية , وقد ذهب البعض إلى النداء بإلغاء موضوع الإنتخابات من الأساس والإعتراف بغياب الديموقراطية والحياة النيابية في مصر إلى أن تتوفر الإرادة الشعبية وتتوافق معها الإرادة الحكومية (مختارة أو مضطرة) لإجراء انتخابات حقيقية وصادقة تغير وجه الحياة في مصر إلى الأفضل . ولا يخفى على عاقل ما تحدثه الإنتخابات المزورة بهذا الشكل من تلوث نفسي - أخلاقي في وعي المصريين , إذ تعطي المثل للجماهير بمشروعية التزوير والغش والخداع , ومشروعية البلطجة والإستيلاء على مقاعد البرلمان بالقوة , ومشروعية شراء أصوات الفقراء بأموال الأثرياء الطامعين في مزيد من الثروة والسلطة , ومشروعهية الفساد الحكومي والشعبي على السواء , كما تعطي إحساسا باليأس من التغيير والإصلاح عبر صناديق الإنتخابات , وهذا في النهاية يضع الشعب المصري أمام خياران : الأول هو السلبية واللامبالاة والإبتعاد عن السياسة تماما مادام غير قادر على التأثير بصوته في المجلس التشريعي الذي يشرع ويراقب , والثاني هو فتح الباب أمام هبّات العنف العشوائي الناتج عن تراكم الإحباط والغضب الناشئ عن سد منافذ الإصلاح والتغيير السلميين. والإنتخابات المزورة فيها إفساد كبير للأجهزة الحكومية المشرفة عليها والمنظمة والمنفذة لها إذ تتلوث أيديها بممارسات سلبية معيبة ويتعود المنتسبين إليها على هذه الممارسات , ويفقدون الثقة في قادتهم الذين أمروهم مباشرة بالتزوير أو لمحوا لهم بهم أو تستروا معهم عليه , ومع تكرار الإنتخابات تتحول تلك الممارسات إلى سلوك حكومي وشعبي دائم يتقبل الكذب والإحتيال والغش والرشوة والبلطجة وغيرها من آفات الإنتخابات غير الشريفة وغير النظيفة . وإذا أضفنا الإمتحانات المغشوشة والتقييمات المغشوشة إلى الإنتخابات المزورة المتراكمة نجد أن الحصيلة حياة مزورة متدهورة فاشلة في كل المجالات , وهذا ما نلمسه في حياتنا في الستين سنة الأخيرة , ويزداد التدهور يوما بعد يوم مع توحش ظاهرتي الغش في الإمتحانات وتزوير الإنتخابات .