فى السياسة ، باعتبارها نشاط إنسانى ، مسموح بهامش من الخطأ ، وجلَّ من لا يخطئ ، شرط ألا يمس هذا الخطأ جوهرالمبادئ الأساسية للحياة ، وعلى رأسها قيم الحق والعدل والحرية ، تلك القيم الرفيعة ، التى اصطلحت البشرية على اعتبارها أقانيم سامية ، تحل اللعنة على من ينتهك حرماتها أو يتحرش بأركانها ، ولذلك احتل الطغاة دائما أسوأ المواقع فى ذاكرة الأمم ووعى الشعوب ، وصارت سيرتهم رمزا لكل الأشياء الكريهة فى التاريخ، وعنوانا لأبشع اللحظات فى مسيرة تطورالنوع البشرى !.ٍ وقد يحدث أن يتمتع شخص ما بسمعة نظيفة ، ترتفع به إلى مكانة سامقة ، وتنزله منزلة ً رفيعة بين قومه ونخبة مواطنيه ، حتى يرتكب هذه النوعية من الأخطاء القاتلة ، فتكون فيها نهايته ، المعنوية ، حتى وإن ظل ، فيزيقيا ،على قيد الحياة ، ويظل طوال ما تبقى من عمره ملفوظا ، ميت الذكر، يجالد للخروج من الجُب الذى وضع نفسه فيه ، ولإقناع بنى جلدته أنه واحد منهم ، بل ويجاهد أشد الجهاد ، للتكفير عن ذنبه ، دون جدوى ، لأن ناسه فقدوا الأمل فيه ، واستردوا ما سبق ومنحوه من محبة ،بعد أن خذلهم ، وخان ما أسبغوه عليه من مودة ، وما عاد أهلا لثقتهم ، مهما فعل أو تكبد ! . وفى التاريخ المصرى المعاصر حالة " نموذجية " لهذا الوضع ، تلك هى حالة "ابراهيم الهلباوى" ، المحامى العظيم ، الذى قضى أغلب عمره يدفع ثمن خطأ فادح من هذه النوعية من الأخطاء القاتلة ،التى لا تمّحى آثارها ولا تذهب سيرتها ! . تتلمذ " الهلباوى" على يد "جمال الدين الأفغانى" ، وعمل فى " الوقائع المصرية " مع " سعد زغلول " تحت رئاسة الإمام " محمد عبده " ، وشحذ قلمه ضد الاحتلال البريطانى ومخازيه وممارساته فى بلادنا ، حتى نال إعجاب زعماء الوطنية المصرية ، ك "سعد زغلول " ، و" محمد فريد " ، الذى طالب المصريين " أن يضعوا ثقتهم فى أعاظم الوطنيين ، مثل الهلباوى " ، كما كان مناضلا لا يُشق له غبار، فى مواجهة العدوان على حرية الصحافة ، ودفاعا عن الوطنيين وأصحاب الرأى ، وله مساهمات بارزة فى أنشطة اجتماعية عديدة ، منها الدعوة لتحريرالمرأة . لكن مجد الهلباوى ومأساته معا ، كانت فى مهنة المحاماة ، التى احترفها ، فبرع فيها وأبدع ، وكان رائدا فى مجالها منذ عام 1883، وتتلمذت على يديه أجيال من رجال القانون والحقوق ، واعترافا بفضله اختاره المحامون أول نقيب لهم عام 1911، ثم كان من رموز الحقوقيين الذين ساهموا فى وضع دستور 1923، الذى لا زال ، بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن على صدوره ، أملا بعيد المنال عصى على التحقق !. ورغم كل ما تقدم ارتكب " الهلباوى " سقطة عمره ، التى لم تغفرها له جموع المصريين ، أبدا ، حينما وقعت " حادثة دنشواى " ، فقبل موقع " المُدّعى العام " ، فيما ترأس " بطرس غالى " ، الجد ، " المحكمة المخصوصة " ، التى عهد إليها بمهمة التنكيل بالفلاحين المصريين البسطاء ، الذين اتهموا كذبا بقتل جنود الاحتلال البريطانى !. وكان أن دفع " غالى" الثمن ، مرة واحدة ، لجريمته فى حق شعبه ، باغتياله على يد الشاب الوطنى " إبراهيم الوردانى " ، أما " الهلباوى " ، فقد ظل من عام 1906 ، عام المأساة ، حتى عام 1940، عام رحيله ، يموت فى اليوم عشرات المرات ، وهو يرى احتقار المصريين له فى نظرات العيون ، ولم يسامحه الشعب أبدا ، رغم اجتهاده فى السعى لاستعادة الثقة المفقودة ، وبذله الجهد الجهيد لإقناعهم أنه صادق فى رغبته التكفير عما اقترفت يداه ! . وظل " الهلباوى " حتى فارق الحياة ، تطارده لعنات الشعب ، وصرخات الضحايا ، وإدانتهم له على لسان " حافظ إبراهيم " : أنت " جلادنا " فلا تنس أنّا قد لبسنا على يديكَ الحدادا ****** وظنى أن الدكتور" سيد بدوى" لو قرأ قصة " إبراهيم الهلباوى "، ووعى حكمة حادثة " دنشواى" واستوعب دروسهما ، جيدا ، لما أقدم على فعل ما فعل أبدا ! . فإذا كان " إبراهيم الهلباوى"، فى موقعة دنشواى ، قد استُخدم كأداة للمستعمرمن أجل الانتقام من المصريين وقمعهم ، فقد استُخدم"بدوى" ، فى موقعة " الدستور" و" إبراهيم عيسى " ، أداة لتحقيق أهداف السلطة فى الانتقام من الصحافة المتمردة على مستقرات النظام ، ولقمع الحرية ، وتكميم أفواه الشعب ، وخنق صوته المستجير من سيطرة تحالف الاستيداد والفساد!. وأخشى ما أخشاه ، وأشعر بالغ الأسف وأنا أكتب هذا الكلام ، أن يكون الدكتور" سيد البدوى" ، وهو صديق احترمته وقدّرته ، فى الماضى ، كثيرا ، قد انزلق على طريق " الهلباوى" المأساوى ، وارتكب ذلك الخطأ الفادح ، أوالفاضح ، أوالفاحش ، بوعى ، (وهوالأرجح بشكل غالب) ، أو بدون وعى ، وهو أمر صعب بالنسبة لقامة اقتصادية سياسية كبيرة ، من مستوى " سيد البدوى" . والمؤسف أن هذا الطريق ذو اتجاه واحد ، one way ، ذهاب بلا عودة ، لا أدرى كيف لم يقرأ الكتور البدوى اللافتة الكبيرة المعلقة على مدخله ، والمكتوب عليها اسم : " طريق الندامة " ! .